الحريرية السياسية نحو “الثأر”

أنطوني جعجع

ما لم تفعله السلطة في خمس سنوات لن تفعله في سنة… جلَّ ما فعلته حتى الساعة انها ركبت موجة الشعب لتتمتع بالزعامة، وموجة الممانعين لتنفتح على دمشق وطهران، وموجة السياديين لتركب موجة الكونغرس والقرارات الدولية، وموجة ١٤ آذار لتعود من المنفى… وأكثر من ذلك ركبت موجة الأصولية لتبايع حزب الله، وموجة المصالحات لتكسب أصوات الرئاسة، وموجة النيترات لفك العزلة الدولية والعربية، وموجة الكورونا لتلجم الشارع وتنقض على مفاتيحها، وموجة العقوبات لتبرير الفشل والتلاعب بمصائر الشعب والكيان، وموجة المافيات لنفض أيديها من الحدود السائبة واستنزاف أموالنا وخيراتنا…

وها هي أخيراً، تنقض على سعد الحريري وتتغنى بالقضاء على الحريرية السياسية.

هنيئاً لها ما فعلته. لكن دعونا نسأل وقد بقي القليل من هذا العهد، ماذا عن الشيعية السياسية هل يمكن أن يصيبها ما أصاب سواها؟ وماذا عن المارونية السياسية هل يمكن أن تعود في زمن منظومة سياسية قضت عليها ومشت في جنازتها ثم راحت تنوح فوق قبرها؟

سعد الحريري عاد الى بيته مع كل أخطائه وممارساته. لن يسمي بديلاً ولن يوفر غطاء سنياً لحكومة غير ميثاقية. فهل تستطيع السلطة تشكيل حكومة من دونه ومن دون السنّة ومن دون ثلثي المسيحيين ،كما فعلت مع حسان دياب؟ إذا كان ذلك ممكناً فليثبتوا لنا أنهم ألغوا بيت الوسط و”أصل الفساد” في هذا البلد، أو أنهم نفوا ساكنه، أو على الأقل فليثبتوا للرأي العام أنهم قادرون على إنقاذ البلاد من دون العرب ومن دون الشرق والغرب معاً.

وهنا لا بد من مخاطبة السلطة: واصلوا رهانكم على سوريا وإيران، اثبتوا لنا أنكم على حق في خياراتكم، واثبتوا أن هذا الانهيار الشامل وقع لأنكم لستم من أهل “العمولة والعمالة” وأن العالم بأسره تجمع وتكاتف وخطط لمنعكم من بناء دولة حرة وسيدة ومستقلة.

في الواقع، غداً يوم آخر، في كل تفاصيله ومفآجاته. وما خسره الحريري في معركة التأليف قد يتحول وقوداً لمعركة حامية في أيار المقبل، لا بل مفتاحاً لأي نصر يتطلع إليه من أسقطه بالنقاط، أو من تفرج عليه منتشياً أو متشفياً، سواء في بعبدا أو البياضة أو معراب أو حتى في الخارج، إذ تزعم السلطة تنحي الرجل بحكم سعودي مبرم.

ويجمع الكثير من المراقبين على أن الرجل سقط في معركة عناد مع الرئيس عون، وليس في معركة طائفة ضد طائفة، أو تيار ضد تيار، مؤكدين أن الفارق بين الفريقين يكمن في أن عون حقق نصراً موقتاً في حين مهد الحريري لنصر أكيد في الانتخابات النيابية المقبلة، وتحول بيضة قبان في أي قرار يمكن أن يتخذ على مستوى السنة في لبنان.

ويرى هؤلاء، أن هناك من السنة اللبنانيين المحبين للمملكة لا ينظرون بارتياح إلى موقفها من الرئيس الحريري، ويعربون عن اعتقادهم أن أي مأخذ سعودي (في حال كان حقيقياً) على نجل رفيق الحريري، لا يجب أن ينعكس على البيئة السنية اللبنانية التي تشعر بأنها مطوقة من حزب الله في مكان والتيار الوطني الحر في مكان آخر، وبأنها ترى في القوات اللبنانية حليفاً لا يمكن الركون إليه وفي وليد جنبلاط حليفاً لا يمكن التكهن بحساباته ورهاناته…

ويقول مصدر ديبلوماسي عربي على دراية بالواقع السني في لبنان، إن السنة يدركون أنهم، وحتى إشعار آخر، يخوضون معركة وجود مع الجميع ومعركة أوزان مع البعض ومصالح مع البعض الآخر، مشيراً إلى أن الناخب السني في أيار المقبل هو غيره في أيار العام ٢٠١٨. وأضاف أن الناخب الجديد يجد نفسه هذه المرة أمام مهمتين: مهمة الحصول على كتلة نيابية وازنة، ومهمة تعويم مرشحين يعتبرهم أقرب إليه من سواه لا بل أكثرهم وفاء .

وليس من قبيل المصادفة، أن يتجنب التيار الوطني الحر إطلاق احتفالات علنية بعد اعتذار الحريري، إذ لم يستغرق الأمر كثيراً، حتى أدرك الثنائي عون – باسيل أن ما فعله وضعه أولاً في خانة المعرقلين والمرشحين إلى لائحة العقوبات الأوروبية، ووضعه ثانياً في مواجهة كتلة سنية متماسكة تمسك بيدها قلم التوقيع على أي توليفة سنية حكومية، ووضعه ثالثاً قي مواجهة استفتاءات أكدت أن أصوات تيار المستقبل في الشمال، وتحديداً في أقضية البترون والكورة وبشري وزغرتا ستصب لمصلحة سليمان فرنجية، الأمر الذي يضع سمير جعجع وجبران باسيل في موقع غير مريح قد لا يؤتي بالنتائج التي حققاها في الانتخابات الأخيرة، ووضعه رابعاً في مواجهة رهان خاطئ، غير واقعي، على أن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان قد يذهب بعيداً في خلافه مع الحريري، إلى الحد الذي يزيد به من قوة حزب الله وحلفائه في البرلمان والحكومة معاً وهو رهان معدوم.

وليس من قبيل المصادفة أيضاً، أن يخطط رجال السلطة للتحرك في اتجاه دمشق، لانتزاع ضغط على الرئيس نبيه بري وحمله على التحالف مع التيار كتعويض عن الورقة السنية، التي دعمته في الشمال وبيروت وزحلة وسواها من المناطق المختلطة.

وأكثر من ذلك، يدرك الرئيس عون أن “النصر” الذي سجله لم يكن نصره بمقدار ما كان نصراً للسيد حسن نصرالله، الذي تمكن من خلال المماطلة التي مارسها الرئيس اللبناني، من شراء المزيد من الوقت للمفاوضين الإيرانيين في فيينا، ومن نقل الصراع الشيعي – السني الى صراع سني – مسيحي.

إقرأ أيضاً: الحريري يعتذر… الله يعين البلد

وأخيراً، لا بد من السؤال، هل سيتمكن الرئيس اللبناني من شراء المزيد من الوقت بعد انسحاب الحريري من لعبة الوقت، وهل يستطيع أن يتجاهل الاستشارات النيابية الملزمة في ظل الضغوط الدولية والعربية التي تمارس عليه؟ وهل يستطيع أن يجد حسان دياب آخر مستعداً للانتحار سياسياً، أو أن يكمل العهد بحكومة عرجاء في مكان ومشلولة في كل مكان؟ وهل يستطيع أن يتملص من ثورة تدب فيها الحياة من جديد وتتهيأ للانقضاض على الشارع والسلطة معاً مدعومة هذه المرة من الغليان السني الناتج عن شعور بالغبن والخيبة يحشر “المستقبل” في الزوايا الضيقة ويسنن مخالبه في انتظار معركة الثأر؟

وأخيراً أيضاً، لا بد من سؤال آخر، هل يقدم السنة على تغيير قيادتهم إرضاء لهذا أو ذاك؟

الجواب بسيط جداً، إذ يقول مرجع سني مخضرم، أن الحريري أدى قسطه من التنازلات والمبادرات وأن الوقت حان، كي يحصد ثمن تنازلاته وكي يحصد الآخر ثمن مغامراته.

شارك المقال