حمم بركان غزة أصابت دولاً قريبة وبعيدة!

جورج حايك
جورج حايك

لا شك في أن الحرب الدائرة بين اسرائيل و”حماس” أعادت خلط الأوراق دولياً، واحتلت المرتبة الأولى في سلّم الأولويات بعدما كانت الحرب الروسية – الأوكرانية في الواجهة طوال عامين، لكن هذه الحرب – البركان في غزة لم تحرق المتنازعين على نحو مباشر أي اسرائيل و”حماس” وحسب، بل وصلت حممها إلى دول قريبة وبعيدة، بحيث يمكن القول إن منطقة الشرق الأوسط لن تعود كما كانت سابقاً، بل سنشهد تغييرات وتحوّلات جذرية، وربما ما جرى الكلام عنه طويلاً أي شرق أوسط جديد بدأت تُرسم ملامحه، وحتماً المسألة ليست أياماً أنما قد تستغرق فترة طويلة من نار ودماء ثم مفاوضات، فإتفاق وترتيبات لمرحلة جديدة!

هذا الكلام ليس انشائياً إنما ورد في تقرير أميركي وُزّع على بعض الديبلوماسيين الأميركيين المعنيين بقضايا الشرق الأوسط ولا سيما النزاع الاسرائيلي – الفلسطيني.

لم يتحدّث التقرير عن شكل الشرق الأوسط الجديد الذي يُرسم في دوائر القرار، إلا أنه تطرق إلى نتائج الحمم التي أصابت الدول القريبة والبعيدة بما فيها الدول المتنازعة.

أولى التداعيات، أظهرت أن الجيش الاسرائيلي لم يعد ينطبق عليه لقب “الجيش الذي لا يُقهر”، بل كشف التقرير عن تصدعات في الأمن الحديدي الذي لطالما تباهت به اسرائيل، فبدا المشهد عكسياً في 7 تشرين الأول الجاري: جثث جنود العدو وضباطه تتراكم على طرق المستوطنات، السافاك وأمان في أسوأ حال، جنود أسرى بالعشرات في قبضة “حماس”، والأهم ما يترتب على الفشل الاستخباري المريع من فقدان الثقة! لكن التقرير لفت إلى أن عملية “طوفان الأقصى” أعادت اللحمة إلى المجتمع الاسرائيلي الذي كان يتخبّط في الانقسام، وجرى تشكيل حكومة “طوارئ” جلست فيها السلطة والمعارضة على طاولة واحدة وفق شعار “المصيبة تجمع” أو “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”.

وفي الميزان، كشف التقرير أن الحرب بين اسرائيل و”حماس” أعادت المياه إلى مجاريها بين الولايات المتحدة الأميركية واسرائيل وخصوصاً بين رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو والرئيس الأميركي جو بايدن الذي أرسل حاملة طائرات وسفناً ومساعدات عسكرية عاجلة لاسرائيل، كما أعلنت واشنطن وباريس ولندن وروما وبرلين في بيان مشترك دعم إسرائيل في معركتها!

وأكد التقرير ان المعسكر الغربي بدا متماسكاً في تحالفه ووقوفه صفاً واحداً لدعم اسرائيل، وبدت الولايات المتحدة التي كانت قضية النزاع الفلسطيني – الاسرائيلي مهملة في أجندتها في الآونة الأخيرة، مستنفرة مع تعهّد علني لاسرائيل بالدفاع عن أمنها إذا دخلت إيران و”حزب الله” في الحرب من بابها الواسع، وهذا تطوّر كبير دفع إيران و”الحزب” إلى التفكير ألف مرة قبل الانخراط في الحرب إلى جانب “حماس”.

وتشير المعطيات في التقرير إلى أن حركة “حماس” أظهرت تنظيماً واحترافاً عسكرياً لا يمكن إلا الاعتراف به، لكنها ومرجعيتها الايرانية لم تحسبا جيداً ما سيحصل بعد الضربة الأولى الموفّقة، وما ربحتاه بالعملية العسكرية المباغتة قد تخسرانه في غزة وخصوصاً أن اسرائيل المجروحة “استوحشت” وها هي تمارس القوة المفرطة في قصف غزة، علماً أن ما ليس أكيداً هو أن خطة “حماس” بالافادة من العوامل الانسانية وانقلاب الرأي العام الدولي ضد اسرائيل التي ترتكب المجازر، ستتحقق، لأن أكثرية هذه الدول تعتبر “حماس” منظمة ارهابية، ومشاهد 7 تشرين الأول والتنكيل بالمستوطنين اليهود لا تزال ماثلة في الوجدان العالمي. مع ذلك، لا يمكن توقّع ما قد يحصل في غزة إذا بدأت اسرائيل هجومها البري، مع الأخذ في الاعتبار المفاجآت العسكرية والكوارث الانسانية، وقدرة اسرائيل على تحمّل الخسائر في جنودها.

ويركّز التقرير الأميركي على أن الشعب الفلسطيني متضامن مع “حماس” إلى حدّ معين، لكن الانقسامات على الصعيد السياسي الفلسطيني ليست لمصلحة الحركة ذات المرجعية الايرانية، فالسلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس الذي قال: “أفعال حماس وسياساتها لا تمثل الشعب الفلسطيني”، قبل أن يسحب كلامه والاكتفاء بالقول ان السلطة تمثّل الشعب الفلسطيني فقط، يدل موقفها على استمرار الانقسام بين الفلسطينيين، بين الهوى العربي والهوى الإيراني، وبين من يؤيد “حل الدولتين”، وحلّ “إزالة اسرائيل”.

ومن النقاط التي أثارها التقرير، استهداف إيران من خلال عملية “حماس” العسكرية مفاوضات التطبيع بين المملكة العربية السعودية واسرائيل، معتبراً أن ايران نجحت في توجيه ضربة استراتيجية الى الولايات المتحدة في هذا الشأن، لأنها كانت الراعية الرسمية لهذه المفاوضات. وبعد عملية “طوفان الأقصى” أعلنت السعودية تعليق المفاوضات في ظل بركة الدماء الفلسطينية المسالة حالياً، وقد عادت القضية الفلسطينية إلى مركزية الوجدان العربي، كما يصعب على تل أبيب أن تقدمَ تنازلات للفلسطينيين خلال الشهور المقبلة في ظل حجم الخسائر الكبيرة التي تكبدتها، وكذلك فإنَّ مشروع الممر الاقتصادي الذي أعلنه بايدن انطلاقاً من الهند ومروراً بالخليج وصولاً إلى ميناء حيفا، أُحرق في حمم بركان غزة وبالتالي بات يواجه عقبات جيوسياسية على وقع التصعيد الأخير، وهو ما قد يدخله إلى ثلاجة التجميد لحين اتضاح تداعيات الحرب الحاليَّة.

وكما أن هناك دولاً تشظت من الحمم البركانية “الغزاوية”، كذلك هناك دول استفادت من النزاع الدائر في الشرق الأوسط، وفق التقرير، ولا سيما روسيا التي تسعى الى صرف انتباه العالم أجمع عن الأحداث في أوكرانيا، فالدعم الغربي لأوكرانيا بتزويدها بأحدث الأسلحة والمعدات كان أحد الأسباب الرئيسة في تباطؤ تقدم القوات الروسية، وقد أسهم أيضاً في قدرة القوات الأوكرانية على تنفيذ بعض العمليات داخل روسيا، فيما يبدو تركيز الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها الأوروبيين اليوم على تداعيات “طوفان الأقصى” وضرورة دعم اسرائيل، وقد بدأت دفعات الأسلحة والصواريخ والذخائر النوعية تصل إلى الدولة العبرية، إضافة إلى إرسال الولايات المتحدة حاملتي طائرات كبيرتين إلى شواطئ اسرائيل، ما أثار قلق الرئيس الوكراني فولوديمير زيلينسكي الذي بدا خائفاً من أن يسرق الصراع الاسرائيلي – الفلسطيني انتباه الدول الحليفة إلى الشرق الأوسط.

وفي إطار محور الممانعة، يصفه التقرير بـ”المرتبك”، على الرغم من الانجاز الذي حققته “حماس”، ويسلّط الضوء على عجز إيران و”حزب الله” عن الدخول في المعركة من الباب الواسع، ويعتبر أن هذا المحور أصيب أيضاً بالحمم البركانية “الغزاوية” وخصوصاً معادلة “وحدة الساحات” التي لم تخرج من إطار الاستهلاك الاعلامي، فيما التزم كل من “الحزب” وإيران بقواعد الاشتباك وباتا محرجين من “حماس”، ما دفع رئيس حركة “حماس” في الخارج خالد مشعل الى أن يقول: “حزب الله قام مشكوراً بخطوات لكن تقديري أن المعركة تتطلب أكثر، وما يجري لا بأس به لكنه غير كافٍ”. ورأى أن “المطلوب اليوم أكثر من طوفان، هكذا يصنع التاريخ، ليس بالخطوات المحدودة الخجولة المترددة، يُصنع بالمغامرات المدروسة”.

هذا الكلام يعكس شعوراً لدى “حماس” بأنها خُذلت وتُركت في المعركة وحدها، وربما الأيام المقبلة، ستبرهن جديّة هذا المحور، وخصوصاً عندما تبدأ العملية البرية للجيش الاسرائيلي في غزة.

ويذكّر التقرير بـ”البروباغندا” التي كانت تستخدمها وسائل اعلام الممانعة بأن الولايات المتحدة تخلت عن الشرق الأوسط، وربما أبرز تداعيات العملية العسكرية لـ”حماس” هي عودة الولايات المتحدة إلى الشرق الأوسط بقوة كبيرة عسكرية وسياسية.

ويختم التقرير بأن الرئيس بايدن لن يترك الحرية الكاملة لاسرائيل كي تستخدم الآلة العسكرية والقوة المفرطة، وربما تكون “العصا” لتأديب “حماس”، إلا أنه سيضغط بإتجاه أن يُلزم اسرائيل باستخدام “الجزرة” أيضاً، قد لا يكون ذلك في وقت قريب لأن دخان المعارك يحجب الصورة الحقيقية لما تخطط له إدارة بايدن للإفادة من حلّ سياسي للقضية الفلسطينية قبل الانتخابات الأميركية 2024، من هنا الحاجة إلى ردّ عسكري يرضي اسرائيل يقلّم أظفار “حماس”، ليدخل العنصر الديبلوماسي في المعادلة، بما في ذلك خطة أميركية ذات مصداقية لإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة.

شارك المقال