هل تفتح جبهة الجنوب؟ (٢)… “الحزب” يعتمد استراتيجية الغموض لإرباك إسرائيل

زياد سامي عيتاني
قصف إسرائيلي على مناطق في جنوب لبنان

منذ انتهاء الحرب بين “حزب الله” وإسرائيل في صيف العام 2006، وتوسيع صلاحيات “اليونيفيل” في الجنوب اللبناني لضمان هدوء المناطق المتاخمة للحدود مع اسرائيل، لم تتطور الأحداث الأمنية هناك لتشمل أي تهديد حقيقي لحالة الهدنة بين الطرفين. وباستثناء بعض المناوشات السابقة خصوصاً واقعة انفجار طائرة مسيرة إسرائيلية داخل عقار تابع للمركز الاعلامي الخاص بـ”حزب الله” في ضاحية بيروت الجنوبية في العام 2019 على خلفية تطورات الحرب في سوريا، فإن الحدود اللبنانية – الاسرائيلية ظلت هادئة نسبياً منذ العام 2006. بل إن غالبية هذه المناوشات لم تتضمن أي تعديل في قواعد الاشتباك بين الفريقين، ولا سيما مع تحذير “حزب الله” المتكرر من أن امتداد النيران الاسرائيلية إلى الضاحية الجنوبية مرة أخرى سيعني امتداد نيران “حزب الله” إلى تل أبيب وليس مجرد المنطقة الحدودية.

ومع ثبات قواعد الاشتباك تلك، بقي التراشق بالقذائف على الحدود اللبنانية الاسرائيلية صباح يوم 8 تشرين الأول الجاري من وجهة نظر المراقبين لا يعدو كونه مجرد نشاط محدود ضمن القواعد نفسها من دون أي تغيير فيها وفقاً للمعطيات المعروفة حتى الآن، ولكن مع القلق الشديد من إمكان تطور الأمر في حال تغيرت أي من هذه المعطيات. لذلك، ومنذ الساعات الأولى لتنفيذ عملية “طوفان الأقصى”، وعلى الرغم من الاختراق النوعي غير المسبوق لغلاف غزة، الذي تسبب بإهتزاز كبير في المنظومة العسكرية والمخابراتية للعدو، بادر رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو في تصريحاته الأولى الى تحذير أطراف أخرى من انتهاز الفرصة لفتح جبهة جديدة على الحدود الشمالية قاصداً “حزب الله”. وبالمثل، حذر الرئيس الأميركي جو بايدن من فتح جبهات أخرى، معلناً دعمه الكامل لأمن إسرائيل واستعداد بلاده لتقديم مساعدات عسكرية عاجلة لاتخاذ ما يلزم لاعادة هذا الأمن.

في المقابل، اكتفى “حزب الله” في اليوم الأول بتهنئة الشعب الفلسطيني وقيادة “حماس” بإطلاق عملية “طوفان الأقصى” كرد حاسم على إصرار إسرائيل المستمر على التعدي على المقدسات، إلا أنه استهل اليوم التالي بقصف مدفعي لمواقع عسكرية إسرائيلية في الأراضي اللبنانية التي لا تزال محتلة في مزارع شبعا وتلال كفر شوبا. وفي ضوء ذلك، سارع الجيش الاسرائيلي في منتصف اليوم الأول الى الاعلان عن تعزيز خطوط دفاعه على الحدود الشمالية مع لبنان واستدعاء عشرات الآلاف من جنود الاحتياط لهذا الغرض، بينما قرر في اليوم التالي الاكتفاء بالرد على مصادر النيران واستهداف خيمة كان “حزب الله” قد نصبها في بلدة شبعا على الطرف الآخر من الحدود من المزارع المحتلة.

أما على المستوى الميداني، فقد بادر الجيش اللبناني الى إغلاق الطريق العسكري المحاذي للحدود اللبنانية – الاسرائيلية منعاً لأي استفزازات قد تتطور الى أحداث أمنية موسعة. من جهته، أعلن المتحدث باسم قوات “اليونيفيل” أن قيادة القوات الأممية على تواصل مباشر مع الطرفين لبنان وإسرائيل لتجنب أي سوء فهم قد يتطور إلى تسخين هذه الجبهة الهادئة نسبياً منذ إصدار القرار 1701 الذي انتهت بموجبه الحرب بين “حزب الله” وإسرائيل في صيف العام 2006.

ولكن على الرغم من ذلك فالقذائف التي وجهها “حزب الله” الى المواقع الاسرائيلية في النقاط اللبنانية التي لا تزال محتلة جاءت للتذكير بأن الحزب لا يزال له الحق في تحرير هذه النقاط، ولكن الوقت الراهن ليس بالضرورة الوقت المناسب لإنجاز هذه المهمة، بل إن اقتصار قصف “حزب الله” على النقاط اللبنانية المحتلة فقط وعدم امتداده في الأيام الأولى إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة يعني وبصورة واضحة جداً أن الحزب لا ينوي تغيير قواعد الاشتباك، ما لم يقدم العدو الصهيوني على التصعيد وتوسيع نطاق إعتداءاته. فلدى “حزب الله” حسابات سياسية دقيقة، لا تدفعه الى الإنجرار نحو أي معركة بالتوقيت الاسرائيلي، من شأنها أن تحقق رغباته لإستجرار تدخل أميركي وغربي مباشر لدعمه. كذلك، فإن الحزب يدرك أن توقيت خوض حرب موسعة مع إسرائيل ليس توقيتاً مثالياً بالنسبة اليه، خوفاً من انفلات الأوضاع بالكامل في ظل الفراغ الرئاسي، إذ ليس له مصلحة في الدخول في حرب مفتوحة يتحمل مسؤوليتها بالكامل في ظل فراغ المؤسسات اللبنانية الرسمية وشللها، إضافة إلى إنهيار الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وفقدان مقومات الصمود المعيشي لدى المواطنين، خصوصاً في ظل غياب أي دعم أو مساعدات خارجية للبنان.

بناءً عليه، فإن الحزب الذي يعتمد سياسة الغموض، يحافظ على هدوئه بهدف إبقاء مشاركته بصورة موسعة في الحرب كورقة للمساومة يتم التهديد بها وليس تنفيذها بالفعل. وهو ما يعني ادخار وزنه الاستراتيجي كي تستخدمه “حماس” للمساومة عند التفاوض على التهدئة وإرساء قواعد جديدة في التفاوض مع إسرائيل، وفي ذلك ترجمة فعلية لمبدأ “وحدة الساحات” الذي سبق ولوح به السيد حسن نصر الله من قبل.

إلا أن ثمة خشية وتخوف جديين، مع تصاعد وتيرة المواجهة وتوسعها يوماً بعد يوم، من تحولها إلى حرب مواجهة مفتوحة، من خلال فتح جبهة الجنوب اللبناني، بهدف فرض قواعد جديدة، ما لم تتمكن الاتصالات الديبلوماسية من الحد من تصاعد الأعمال العسكرية، التي باتت تأخذ منحى خطيراً.

شارك المقال