ظل عرفات: البعثرة الفلسطينية وإشكالية الزعامة

معتز قطينة
معتز قطينة

المشكلة الأساسُ الآن في فلسطين، وهي مشكلة ربما توازي مشكلة الاحتلال نفسه أو تَفُوقها، هي غياب القيادة الفلسطينية الحقيقية، والرمزية الوطنية التي يمكن للفلسطينيين الانضواء تحت مظلتها. قلوبهم شتى إذا تراخت آلة القتل ويصبحون جميعاً كلما تكدّست الشوارع بالجثث، ليس دائماً بالطبع، فلربما تراشق الطرفان للتملص من المسؤولية أمام الشعب الفلسطيني. مضى ما يزيد على 16 عاماً من هذا الانقسام البيِّن بين طرفين يقتتلان على فتات الاحتلال، والشعب المغلوب على أمره مشتّت بين قيادتين كلاهما مُرّ، وكأنّ ما فيه من ويلات الاحتلال وضنك الأحوال لا يكفيه، ليحتمل فوق مصائبه شِقاقاً سياسياً لا يلوح له حلٌ قريب.

الشارع الفلسطيني مبعثر، والرأي العام حائرٌ، بين من يصدّق “فتح” وسُلطتها الوطنية، ثم يتذكر أنها وأدت الكفاح المسلّح في 1993 ومدّت يدها إلى المحتل واعترفت به رسمياً من دون أن يعترف بها، لكنها لا تزال حيّة على الأرض وإن كانت مسلوبة الفعل والإرادة. وهناك في الشارع من تغويه “حماس” وشعاراتها البرّاقة وجعجعتها الاعلامية، وإصرارها على أن السلاحَ شرعيتها الوحيدة باسم الله وما تستعين به على الناس، وإن كان الثمنُ دائماً ضحايا فلسطينيين من سكان غزة غالباً، كما يحدث الآن. وهناك من يكفر بهما جميعاً، ولا يرى مفراً من الاستسلام للواقع بعيداً عن أي آمال سياسية، أو طموحات قد تقود إلى خلاص أو تعيد الأرض إلى أصحابها، هذا في ما يخص فلسطينيي الداخل.

فلسطينيو الخارج، منهم أجيال متمسكة بفلسطينيتها حتى النخاع، لا يزال بعضهم يتوارث المفاتيح في المنفى، ويمنّي نفسه بالعودة ولو بعد حين. وثمة آخرون اندمجوا في مجتمعهم الجديد، الذي ولدوا فيه، سواء كان ذلك أرضاً عربية أو أجنبية، ويستوي في ذلك حاملو جنسيات البلدان الجديدة بمن بقي فيها موسوماً بصفة اللاجئ، فاقدو أمل في الرجوع إلى تراب آبائهم وأجدادهم، أو ببساطة – وموضوعية أيضاً – لم يعرفوا يوماً التراب الفلسطيني ولم يزوروه، وهؤلاء يعانون – إضافة إلى كونهم فلسطينيين – من وطأة مأزق أخلاقي بين المسؤولية التاريخية تجاه وطن مسروق، وبين صدفة حياتية لم يختاروا أن يكونوا فيها، وكلهم على حق.. كلهم، الذي يريد أن يعود إلى جذوره، والمشغول بحياته الجديدة.. الذي يريد أن تستمر الحياة.

السلطة الوطنية الفلسطينية تآكلت منذ حصار الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في رام الله، وبموته – أو بمقتله إن رجحت رواية تسميمه – سقط الحجر الأخير في قدرتها على تمثيل فلسطين وقضية شعبها، ولنتفق، وإن اختلفنا حوله، أن عرفات كان يجسّد بحضوره رمزية مهمّة في الواقع الفلسطيني، تتجسّد في حلم حيّ وإن لم يكن قابلاً للتحقق، إلا أنه كان قادراً على رأب الصدع بين الفصائل، وتقريب وجهات النظر في ما بينها مهما كان الثمن الذي يقتضيه الأمر، وكانت كاريزما الثائر ذي الكوفية أشبه بالمرجعيّة الصّنَمية التي يتوقف عندها الأضداد، محمّلاً بتاريخ من العمل الفدائيّ الذي ظلّ علامته الشخصية حتى بعد أن نحّى بندقيّة الثائر وقدّم لمحتلّيه غصن الزيتون بلا ثمن، سوى اعتراف محدود بمنظمة التحرير الفلسطينية، على أرضٍ مراقبة كلياً وسلاح لم يتوجه إلا إلى الداخل.

يستوي الموقف الخارجي للسُلطة الفتحاوية وغياب تأثيرها إقليمياً وعالمياً، بوضعها الداخلي الهزيل الذي سمح بتعاظم دور “حماس” وانخراطها في العمل السياسي، كانت تلك ضربة قاصمة للحكم الفلسطيني، أن يُنتزع البرلمان من حركة عقائدية تحقق فوزاً صادماً في انتخابات 2006، ثم تقفز على رأس السلطة التنفيذية ورئاسة الحكومة ثم الخلاف على حكومة ائتلافية أو تحمل المسؤولية كاملة، فاتفاق مكة الذي ظل حبراً وعهداً لم يُترجم على الأرض، ثم عدم قبولها الخروج من الحكم، وإحداث انشقاق رسمي في إدارة الهيكل الفلسطيني المتآكل، بإقامة حكومة غير شرعية تديرها في قطاع غزة، مقابل حكومة شرعية ضعيفة تديرها “فتح” في بقية أراضي السلطة، وهذه والله كبيرة الكبائر، أن تحكم قوّتان متنافستان بلداً لا يزال يعيش تحت ضيم الاحتلال، ما الذي يمكن لنا أن نتخيله إذاً عند الإعلان عن انتهاء الاحتلال وإدارة فلسطين المحرّرة بصورة كاملة؟!

قد يقول قائل: وهل هذا وقته؟ في ظل الإبادة التي تتعرض لها غزة – رفع الله عن أهلها الظلم والجور – هل من اللائق الآن السؤال عن الادارة السياسية والانقسام الداخلي؟ بلى، ربما يكون هذا الوقت الأنسب، فالفلسطينيون في مرمى النار بصورة يومية، وليس ثمة مخرج لتمثيل القضية سوى بوجود قيادة يستطيعون الالتفاف حولها، وهذا ما يدفع إلى أسئلة كثيرة لا إجابة لها غالباً: هل ثمة شخصية فلسطينية يمكن الإجماع عليها لقيادة هذه المرحلة التاريخية؟ الأسماء المطروحة لخلافة عباس كلها تدور في فلك “فتح”، أعضاءٌ من اللجنة التنفيذية للحركة، وجوهٌ مألوفة تقادم بها العهد ولم يعد لديها ما تقدمه، وأسماء أخرى يجهلها الفلسطينيون، ولا يمتلكون من السمعة الدولية ما يؤهلهم لتحريك زمام الأمور، وإن ارتبط بعضهم ببعض التحالف هنا أو هناك.

هل ستتدخل إسرائيل ودول الجوار في قبول هذا القائد؟ هل ستوافق عليه الحركات العقائدية وتتحد خلف لوائه إن رأت فيه ما يخوّله قيادة التاريخ؟

يجب أن يفي القائد المقبل باشتراطات معقدة، يحظى فيها بقبول الشارع الفلسطيني بكل أحماله التاريخية، بما في ذلك إقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس، واليقين المطلق بحق اللاجئين في العودة، وعليه أن يحصل على قبول الفصائل الداخلية جميعها، تلك التي تعترف بإسرائيل دولةً، وتقرّ باتفاقيات أوسلو، وتلك الرافضة للسلام والمعارضة للاعتراف بالمحتل، وعليه أن يتمتع بسمعة مقبولة من المجتمع الاقليمي والدولي تمكّنه من بناء علاقات جيدة تضمن حصول القضية على دعم عربي وإسلامي وعالمي، إلى جانب مهارات إدارية وسياسية عالية تُعينه على إصلاح ما أفسدته السلطة منذ نشأتها وحتى اليوم.

سيظل هذا السؤال قائماً ومطروحاً، بل هو السؤال الأجدر الذي سيقود إلى الحل، حتى يصطف الفلسطينيون خلف قيادة واحدة، والله وحده يعلم من هو الجدير بتلك القيادة، ومتى سيحين وعدها.

شارك المقال