الجميع يرفض الحرب… فهل الجميع خونة وعملاء للعدو؟

عبدالوهاب بدرخان

في حرب 2006 جرى تخوين غالبية اللبنانيين لأنها رفضت تلك الحرب والدمار الذي أحدثته. رُدّت مساعدات للنازحين من الجنوب الى بيروت لأن الجهات التي قدّمتها صنّفت في خانة العمالة، واستمر التعامل معها بهذا المفهوم الملفّق، فقط للحفاظ على جمهور “المقاومة” مشحوناً بالكراهية والعداء، وعلى انقسامات سياسية يتواصل استثمارها في خدمة المشروع الإيراني و”حزبه” المحلي، الذي غدا حزباً اقليمياً معادياً للعرب ومرسّماً للحدود البحرية مع العدو الإسرائيلي. وطوال سبعة عشر عاماً أمكن اكتشاف عدد من العملاء المتعاملين مع العدو في صفوف “الممانعة” مقابل صفر عميل من الفريق الآخر.

اليوم، هناك سؤال واحد: حرب أم لا حرب؟ جميع اللبنانيين إنْ لم تكن غالبيتهم القصوى لا يريدون حرباً من شأنها أن تفاقم الفقر والبؤس والوهن الذي بلغه البلد. وجميع اللبنانيين، مثلهم مثل كل شعوب المنطقة العربية، وشعب الضفة الغربية، بل حتى مثل شعب إيران – إذا كان لا بد من ذكرها – متضامنون مع أهل غزّة في معاناتهم الملحمية القاسية، لكنهم لا يريدون أن تنخرط بلدانهم في حرب. فهل ان هؤلاء جميعاً خونة ومتخاذلون في نظر “محور الممانعة”؟ وماذا عن النظام السوري الذي لجأ الى ما يسمى “مجلس الشعب” لتغطية عدم امتلاكه القرار ولإيجاد مبررات لعدم دخول الحرب؟ وماذا عن الحكومة العراقية التي لا تريد حرباً على الرغم من أنها تمثّل الميليشيات الموالية لإيران؟ وحدها جماعة الحوثيين المنفلتة في اليمن مستعدّة للمشاركة في أي حرب، وتبدو أقرب الى “حزب إيران” اللبناني المكلّف بإدارة الحرب متخبّطاً بين حساباته المحلية وواجباته الإيرانية.

نالت عملية “طوفان الأقصى” كل الاعجاب بشجاعة المنفّذين وذكاء المخططين، وبتجسيدها حق المقاومة ضد الاحتلال والحصار الظالم لقطاع غزّة، مثلما نالت من مآخذ لأنها لم تتحسّب لـ “ما بعد”، اليوم التالي، إذ تُرك الشعب الفلسطيني الأعزل في غزّة، وكذلك في الضفّة الغربية، فريسة سهلة لوحشية إسرائيل وكل “العالم المتحضّر” الذي تضامن معها ويدعم انتقامها من البشر والحجر والشجر في غزّة. لم يستثنِ العقاب الجماعي أياً من أبسط المقوّمات الأساسية للعيش إلا ومنعه، ولم تجد الدول الداعمة للعدو أي داعٍ لممارسة ضغط حقيقي لتوفير مساعدات تضافرت دولٌ ومجتمعات ومنظمات أممية لتأمينها، بل إن هذا العقاب الجماعي لم يستثنِ أيّاً من المقوّمات الأساسية للموت الكريم ولا لانتشال الجثث من تحت الأنقاض ولا لمعالجة صحيحة للجرحى. كل ذلك كان متوقّعاً، ولم يكن ليسمح بالمجازفة إلا في حال واحدة: أن تكون حركة “حماس” وسائر الفصائل والداعم الإيراني واثقين بأن الهدف – إزالة الاحتلال – سيتحقق في نهاية المطاف ويستحق هذه التضحية.

لا شيء يسوّغ هذه المجازفة الخطيرة إلا أن تكون جزءاً مخططاً مسبقاً في خطط “الحرب الكبرى”، حرب واقعة لا محالة، تنتظر الاجتياح البري لقطاع غزّة لتمتدّ الى كل أنحاء الشرق الأوسط. لكن الوقائع تحصرها في جبهة جنوب لبنان، وربما تكون هناك مشاركة من المواقع “الإيرانية” في جنوب سوريا. فطهران نفسها، التي لديها القرار والإمرة، وضعت التنفيذ في عهدة “حزبها” اللبناني (“حزب الله”) الذي يتولّى منذ أعوام التنسيق مع حركتي “حماس” و”الجهاد”، فضلاً عن مجموعات محلية هامشية رعاها وسلّحها ووظّفها تحديداً في العبث بالداخل اللبناني ويرشّحها الآن لدور “قومي”. لكنه يعتمد خصوصاً على ترسانة الصواريخ والمسيّرات والأسلحة التي وفّرتها له إيران ثم مكّنته من تصنيعها، حتى بات يشكّل تهديداً جدّياً لإسرائيل. ما لدى “حزب إيران” اللبناني يضاهي ما شهدناه لدى “حماس” في عملية “طوفان الأقصى” بل يفوقه، نظراً الى أن “الحزب” تمتّع بحرّية عمل وتحرّك لم تتوفّر لـ”حماس”. لكن أصبح معروفاً أن أي مبارزة بالقوة النارية لن تكون متكافئة بسبب التدخّل الأميركي المؤكّد، وأي سباق في مديات التدمير ونوعيته لن تكون متكافئة أيضاً، كذلك أي مراهنة على “إعادة الاعمار” لن تكون مجدية لأن مصادر التمويل الغربية ستصبّ حصرياً على حاجات إسرائيل، أما المصادر الأخرى ولا سيما العربية فتريد أن تعرف ما إذا كان قطاع غزّة ولبنان سيبقيان “إيرانيين” أم أنهما سينتقلان الى واقع آخر.

المتداول كثيراً أن “حزب إيران/ حزب الله” يأخذ في الاعتبار صعوبة الوضع اللبناني في ادارته للمعركة أو المعارك، وربما يوضح تحمّله التضحيات البشرية المتزايدة. لكن ذوي هؤلاء الشهداء لا يعرفون من أجل ماذا يموت أولادهم؟ لا شك في أنهم دعموا دوافع “الحزب” في 2006، وفهموا بصعوبة ومن دون اقتناع تدخّله في سوريا واليمن والعراق، ولعلّهم يدركون بصعوبة أيضاً حقيقة الموقف الحالي لـ “الحزب”، لكن هل يؤيّدونه ويدعمونه في فتح الحدود أمام “حماس” و”الجهاد”، وفي احتمال اشعال حرب “لنصرة غزّة”، أم أنهم مثل سائر اللبنانيين يعتبرون أن مثل هذا العبء ينبغي أن يكون مشتركاً مع الدول المجاورة للعدو الإسرائيلي؟ ثم لا بدّ أنهم يتساءلون، مثل جميع اللبنانيين، أين إيران وما هو دورها وهي التي رتّبت كل شيئ وصولاً الى هذه الحرب وتحاول عبر رسائل متبادلة مع الولايات المتحدة تحصيل مكاسب منها، سواء لإيران نفسها أو لها ولنفوذها الإقليمي؟ بالطبع هناك خط استراتيجي يلتزمه “الحزب” ويعمل في اطاره، ويعتقد أصحابه أنهم اقتربوا من تحقيق الأهداف الرئيسة لإيران، ففي أفضل الأحوال يخفق الإسرائيليون في “انهاء حماس” ويبقى الوكلاء الآخرون ناشطين حيث هم الآن، وفي أسوأ الأحوال تضعف “حماس” ويسود الفراغ والفوضى في القطاع على غرار الأوضاع السائدة في العواصم الأربع “الإيرانية” ولا بدّ من أن ينعكس ذلك على الوكلاء.

وضع المنطقة الحدودية تحت سيطرة الجيش اللبناني مطلب داخلي وخارجي مزمن، منذ ما قبل حرب 2006 وبعدها، وهو الآن خيارٌ لخفض التصعيد وتجنّب الحرب. فـ “حزب إيران” رفض ويرفض نشر الجيش جنوباً، وفقاً للقرار 1701، لأن هذا يعطّل امساكه بقرار الحرب والسلم، وبالتالي دوره المتقدّم في الاستراتيجية الإيرانية. ثم ان الانكفاء لمصلحة الجيش يشكّل انتكاسة كبرى لهيمنة “الحزب” على لبنان، لكن كيف يتصوّر هذا “الحزب” وضعه في لبنان إذا ما ذهب الى حرب، أم أنه يضمن مسبقاً الاحتفاظ بما يكفي من قوة مسلّحة للانتقام من الداخل؟

شارك المقال