“الكوفية” رمز التضامن مع تصدي الفلسطينيين لحرب إبادتهم

زياد سامي عيتاني

مع تنفيذ عملية “طوفان الأقصى” في السابع من تشرين الأول الجاري، التي هزت في العمق كيان جبروت جيش الاحتلال الاسرائيلي ومخابراته، والتي أعادت الاعتبار الى القضية الفلسطينية، بضفتها قضية العرب المركزية، عادت الكوفية الفلسطينية بدلالاتها ورمزيتها لنضال الشعب الفلسطيني في سبيل قضيته العادلة، إلى البروز والانتشار بصورة لافتة وملحوظة، كحالة تعبيرية عن التضامن مع هذا الشعب، وتحديداً في قطاع غزة الذي يتعرض لحرب إبادة جماعية. فبدا المشهد اليوم، وكأن العالم كله تذكر هذه الكوفية، ونبشها من ذاكرة سحيقة، وخلال أيام صارت الرمز الأول والأشهر للتضامن مع الشعب الفلسطيني وحقه في العودة وإستعادة أرضه المهودة وقضيته العادلة، فتمكنت من توحيد الشعوب العربية التي طالما قسمتها الخلافات السياسية.

ولا بد من التوضيح أن للفلسطينيين حكاية طويلة مع ما تنطوي عليه الكوفية من مدلول نضالي مقاوم طويل منذ بداية تصديهم للانتداب الانكليزي، لتترسخ مع إنطلاقة مقاومتهم المسلحة ضد الكيان الصهيوني الغاصب لأرضهم، وتصبح مع مرور الزمن بلا منازع أبرز إشارة مرتبطة بقضية فلسطين وحقوق شعبها العادلة. وهذا ما جعل أغنية محمد عساف “علّي الكوفية علّي ولولح بيها، وغنّي عتابا وميجانا وسامر فيها” من أكثر أناشيد الثورة الفلسطينية حماسة في مختلف الأوساط، لا سيما الشبابية منها المناصرة للقضية الفلسطينية.

تبقى الاشارة إلى أن العقال والكوفية يرمزان إلى الأصالة والرجولة والشهامة والقيم عند المجتمعات العربية منذ القدم. وهذا ما جعل المطربة الكبيرة سميرة توفيق تحاكيهما وتصفهما في أغنيتها الشهيرة “يا بو عقال وكفية، والسمرة العربية”.

أصل الكوفية:

الكوفية عراقية الأصل والمنشأ، وتعود بداية صناعتها إلى مدينة الكوفة تحديداً التي إزدهرت فيها صناعة الأسلحة والنسيج، ومنها الكوفية كبديل للعمائم والتي لاقت رواجاً وإقبالاً شديدين لبساطتها وعدم إحتوائها على أي زخارف ونقشات، إلى أن ظهرت الكوفية الموشاة بخيوط ذهبية في عهد الخلفاء العباسيين. وقيل أيضاً إن إسمها جاء من التكوف أي الاستدارة بحيث تستدير على الرأس فتغطيه كله. ومن المفيد في هذا المجال أن نذكر أن لبس الكوفية لا يُعرف بالضبط متى ظهر في الكوفة، لكن هناك نص تاريخي يشير إليها يرجع إلى العام 355 هـ.

رحالة سويسري يصف الكوفية:

وتحدث الرحالة السويسري الذي تجول في بوادي العرب جون لويس بوركهارت (توفي في 15 أكتوبر (تشرين الأول) 1817م في القاهرة) في كتابه عن الكفية أو الكوفية، قائلاً: “ويرتدي جميع البدو فوق رؤوسهم بدلاً من الطربوش التركي منديلاً مربعاً من القطن أو القطن المخلوط بالحرير ويسمونه كفية، وهم يلفونها على الرأس بحيث ينسدل الطرف الخلفي على الظهر وينسدل طرفان آخران على الجانبين الأماميين للكتفين بما يسمح بحماية وجوههم من أشعة الشمس أو الرياح الساخنة أو الأمطار، وكذلك لإخفاء ملامحهم إذا رغبوا في ألا تعرف هويتهم. وهي عادة ذات لون أصفر أو أصفر مخلوط بالرمادي”.

لباس الفلاحين الفلسطينيين: قبل العام 1936، إرتدى الفلاحون “الشماغ” لمسح عرقهم، ومع مرور الوقت طوّرته النسوة وأضفن اليه الحبكة السوداء وذلك لزيادة قدرة القماش على إمتصاص كمية أكبر من العرق، وإثبات الخيوط النافرة فاعلية أكبر في مسح التراب عن وجوه العمال بالاضافة إلى عدم انزلاق “الشماغ” المطرز (الكوفية) عن رؤوس الفلاحين خلال عملهم.

التخفي لمحاربة الانكليز:

حتى هذه المرحلة كانت مهمة الكوفية الوحيدة الحماية من الشمس. ولكن مع إندلاع ثورة العام 1936، تحولت الكوفية من قطعة قماش إلى رمز للنضال رسخته الدماء. خلال تلك الثورة أخفى الفدائيون الفلسطينيون (كانت غالبيتهم من الريف) وجوههم بالكوفيات عند تنفيذهم عملياتهم. فسعت القوات البريطانية المحتلة لفلسطين الى إلقاء القبض على كل من يرتدي كوفية.

الحسيني يطلب من الجميع إرتداءها:

ورداً على هذه الاجراءات أصدرت قيادة الثورة والمتمثلة بأمين الحسيني أمراً طلبت فيه من جميع الفلسطينيين إرتداء الكوفية لتصعيب مهمة البريطانيين في إلقاء القبض على الفدائيين، فصارت مهمة الانجليز صعبة بعدما وضعها شباب القرى والمدن وشيوخها، على حد سواء.

تغييب الكوفية بعد النكبة:

بعد إخماد ثورة الـ1936 وحدوث نكبة 1948، غُيّبت الكوفية عن المشهد الفلسطيني لوقت طويل، ولم تعد إلا في العام 1965، مع إتخاذ “العاصفة” الذراع العسكري لحركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتح” اللونين الأسود والأبيض وتطريزة الكوفية خلفية لشعارها.

أبو عمار يعيد الإعتبار الى الكوفية:

ومع ظهور الرئيس ياسر عرفات على الساحة السياسية، وإلتزامه إرتداء الكوفية بطريقة تجسد خريطة فلسطين على كتفه وظهره وإصبع الجليل على رأسه، عاد الألق الى الكوفية. وهذا ما شجع فدائيي الثورة الفلسطينية على ما فعله أجدادهم عام 1936، بحيث خبأوا وجوههم بالكوفية خلال تدريباتهم وتنفيذهم العمليات ضد الاحتلال الاسرائيلي. ويذكر في هذا المجال أن أبو عمار ظل يلبس الكوفية حتى أيامه الأخيرة، بطريقة هندسية على شكل خارطة فلسطين التاريخية. وكان أبو عمار يرفض أن تُلتقط له أي صورة من دون هذه الكوفية. وعندما منعه الاسرائيليون مرة من حضور قداس منتصف الليل في كنيسة المهد عام 2001، وضع الفلسطينيون مكان جلوس عرفات الفارغ، كوفيته، وقال بطريرك اللاتين آنذاك ميشال صباح في القداس: “أنت حاضر أكثر من أي وقت مضى”. إذاً، أبو عمار الذي أصبحت الكوفية جزءاً من صورته، كان سبباً في أن يحولها الى رمز للنضال الفلسطيني، إذ ان الكوفية ذات اللونين الأبيض والأسود، لم تفارقه في أي يوم.

الكوفية حاضرة في الحركات الاحتجاجية:

الا أن الكوفية، لم تبق رمز الفلسطينيين في مناهضة المحتل وحسب، لكنها أصبحت حاضرة في كل المظاهرات المناهضة لأي احتلال أو للحركات الاحتجاجية السياسية في العالم، وفي كلّ تجمعات النضال الأخرى، الطلابية والنقابية، التي تحمل طابعاً سياسياً واجتماعياً وثقافياً.

أما اليوم، ومع الحرب الصهيونية بكل وحشيتها وبربريتها، بتنا نلحظ أن الآلاف المؤلفة من الشباب الفلسطيني، إضافة إلى الشعوب العربية المتضامنة مع القضية الفلسطينية يلفون الكوفية البيضاء والسوداء حول أكتافهم، وبعضهم يرتدي “لفحة” على شكل كوفية، مرسوماً عليها خارطة فلسطين أو علمها ليعبّروا عن تأييدهم لها ولشعبها، بحيث جعلوا منها رمزاً للتضامن مع المرابطين على ثغور فلسطين، الذين يسجلون ملاحم بطولية في التصدي للقصف الاسرائيلي الاجرامي والهمجي المنظم، لتدمير قطاع غزة وتهجير أهله.

شارك المقال