“الممانعة” تبلغ ايران: الجهاد لا الحياد!

أنطوني جعجع

هي المرة الأولى منذ “الثورة الاسلامية” في العام ١٩٧٩ تجد ايران نفسها في مأزق عسكري واستراتيجي وعقائدي وسياسي لا يبدو الخروج منه متاحاً من دون أثمان وتداعيات وتضحيات.

وسواء كان الايرانيون على علاقة بما جرى في “السابع من تشرين” أم لا، فقد تدحرجت كرة النار من غزة الى ايران نفسها لتضعها أمام الحقيقة التي ينتظرها الجميع، وهي مدى مصداقيتها حيال الصراع مع اسرائيل أولاً، ومدى التزامها ثانياً حيال حلفاء كانوا لها الذراع العسكرية التي هشمت اسرائيل، وأنقذت بشار الأسد، وأزعجت السعودية وعرب الاعتدال، وفرملت عملية السلام بين تل أبيب والسلطة الفلسطينية، وأسهمت، من خلال عمليات التهريب وتبييض الأموال، في الالتفاف على الحصارات المضروبة على محور الممانعة ومن يدور في فلكه من ايران حتى البحر المتوسط.

والواقع، وفق قراءة سريعة لتطور الأحداث في غزة، أن ايران تجد نفسها في الموقع الذي ضم حسن نصر الله بعد “حرب تموز” أي في موقع “لو كنت أعلم”، هامسة في أروقتها السرية أن ما جرى غداة “طوفان الأقصى” لم يكن في الحسبان، ولا سيما سرعة التدخل الأميركي الذي شكل طوقاً نارياً هائلاً حول اسرائيل موجهاً في نوع خاص الى “حزب الله” في الشمال وايران وحلفائها في كل من سوريا والعراق واليمن ومياه الخليج.

وتشير القراءة عينها الى أن ايران كانت تأمل أساساً في أن يدفع “طوفان الأقصى” اسرائيل الى التفكير ملياً قبل التعرض للمنشآت النووية والعسكرية في أراضيها، وارغام أميركا على احياء مفاوضات البرنامج النووي تمهيداً لفك العقوبات، قبل أن تنقلب الأمور رأساً على عقب وتصبح تلك الآمال أقرب الى الانفجار الواسع منه الى الانفراج المنشود.

وتعترف مصادر قريبة من طهران، بأن النظام الحاكم في الجمهورية الاسلامية، استنفد عبثاً كل عبارات التحذير من جهة والتهدئة من جهة أخرى، ولم يبقَ الا أمام واحد من خيارين: اما الأمل في أن تصمد حركة “حماس” كما صمد “حزب الله” خلال “حرب تموز” وامتصاص الجنون الاسرائيلي في مكان والخطر الأميركي في مكان آخر، واما المخاطرة بكل شيئ والدخول في حرب مباشرة مع الجيش الأميركي الذي يبدو هذه المرة مستعداً لخوض الحروب المؤجلة مع الايرانيين، لا سيما بعدما وسعوا تحدياتهم الى حد التورط مع روسيا في حربها المباشرة على أوكرانيا وغير المباشرة على حلف الأطلسي، وبعدما تجرأوا على زعزعة أعتى حليف اقليمي للولايات المتحدة في الشرق الأوسط.

وثمة أمر آخر لم يأخذه الايرانيون في الحسبان أو على الأقل لم يأتِ بما كانوا يتوقعونه، وهو أن يتحول “طوفان الأقصى” الى لغم يهدد بتفجير كل جبهات ايران دفعة واحدة في معركة قد تخوضها وحدها من دون دعم عربي أو اسلامي أو دولي، وأن يسهم في لملمة المجتمع الاسرائيلي المنقسم ولو الى حين، اضافة الى الفشل في تفكيك مسارات أو اتفاقات التطبيع بين العرب واسرائيل، وفي استبدال حل الدولتين بأي خيار آخر ولا سيما خيار القوة.

وتقر المصادر أيضاً بأن ما يجري في غزة وضع أمام ايران كل حوافز ومبررات الذهاب الى الجبهات لا مبررات اللجوء الى التسويات، لكنها اكتفت بسياسة “الحياد الحذر” على المستوى الرسمي وبعض الهجمات العشوائية على قوات وقواعد أميركية في كل من سوريا والعراق من بوابة جس النبض من جهة، وامتحان جدية الأميركيين من جهة أخرى على المستوى العسكري، وهي الجدية التي ترجمت من خلال تحريك عتادهم العسكري المتطور لاسقاط مسيرات وصواريخ حوثية كانت متجهة نحو اسرائيل ومصر، وقصف مراكز وقوافل “الحرس الثوري” وحلفائه في سوريا.

والواقع أيضاً أن ايران تعرف أن الدول العربية لن تتدخل في الحرب مهما قست على أبناء غزة وتحديداً مصر التي عانت من حركة “حماس” ما لم تعانه أي دولة عربية أخرى، والأردن الذي يعتبرها لغماً يهدد بتفجير التركيبة الديموغرافية المعقدة في البلاد، وأن العبء الأكبر سيقع على “حزب الله” في مواجهة يعتمد عليها مصير “الثورة الاسلامية” عن آخرها.

وما يزيد في حال التردد الايراني والميل الى احتواء الانفلاش الحربي المحتمل، انتقال “حماس” الواقعة تحت ضغط عسكري غير مسبوق من الجو والبر والبحر، من موقع المبادرة الى موقع الدفاع، ومن رفض التفاوض على موضوع الرهائن تحت ضغط الحرب، الى التفاوض في عز الجنون الاسرائيلي المتواصل، ومحاولة طهران الاضطلاع بدور دولة محايدة تعمل على نقل هؤلاء الرهائن اليها والتفاوض عليهم من هناك، تماماً كما كانت الحال في “بوريفاج بيروت” في ثمانينيات القرن الماضي أو في فضيحة “ايران غيت”.

لكن ما تسعى اليه ايران، سواء عبر الوساطات أو الجبهات، لا يبدو ذا تأثير فاعل لا لدى الاسرائيليين الذين التقطوا أنفاسهم الى حد ما، ولا لدى الأميركيين الذين يواصلون ضخ قوات بحرية وجوية وبرية الى شرق المتوسط كافية لشن حرب مباشرة طويلة مع ايران وحلفائها، ولم يلغِ بالتالي الانطباع العالمي الذي يرفض تبرئة الايرانيين مما جرى في غلاف غزة في “السابع من تشرين”.

ويقول مصدر ديبلوماسي غربي في هذا المجال: “لم يعد العالم راغباً في معرفة من ورط من في هذه الحرب، هل هي حماس من ورط ايران أم العكس هو الصحيح؟”، مشيراً الى أن ما يهم مصر والأردن هو تحاشي الصواريخ المنطلقة من اليمن ومنع أي توطين فلسطيني في أراضيهما، وأن ما يهم الولايات المتحدة والعالم الغربي، هو منع سقوط اسرائيل من جهة ومنع سقوط الشرق الأوسط في قبضة ايران من جهة أخرى ونقطة على السطر.

ويضيف: “ان ايران باتت تعرف الآن أن كثرة الصراعات التي مارستها منذ العام ١٩٧٩، قد أوقعتها أخيراً في الفخ الذي طالما سعت الى تحاشيه، وأن تقليد الاستراتيجية الأميركية القائمة على تجنيد مجاهدين عرب ومسلمين أصوليين لمقاتلة الجيش السوفياتي في أفغانستان بهدف إحراج الكرملين واذلاله وتهميشه، لم ينجح من خلال تجنيد أصوليين فلسطينيين ولبنانيين وسوريين وعراقيين ويمنيين في صراعها مع كل من أميركا واسرائيل”.

ويرى المصدر نفسه، أن المشهد العام الآن، ليس الا كناية عن وحش اسرائيلي مفترس ينهش ضحية فلسطينية على مرأى من “عراب” محرج لا يُقدم على القتال ولا يملك ما يساعده على التفاوض من موقع قوة، وعن صوت واحد في أوساط الممانعين يسأل: هل تريد ايران القتال حتى آخر فلسطيني في غزة؟

والواقع أن هذا السؤال يأتي بعدما قررت تل أبيب دخول غزة براً في عمليات قضم حذر وتدريجي لتكشف أي جبهة يمكن أن تفتح نيرانها دعماً لحركة “حماس”، وأياً من أطراف النزاع يملك ما يمكن أن يتخلى عنه أي ايران، ومن يمكن أن يتخلى عما لا يملكه أي إسرائيل.

حتى الآن لا أحد يعرف ما هي الخطوة النهائية التي يمكن أن تتخذها طهران، لكن الحقيقة الساطعة بعد نحو شهر على “حرب غزة” تؤكد أن اسرائيل هي الطرف الوحيد الذي يخوض حرباً عملية، في حين تعيش كل الأطراف الأخرى حال حرب حقيقية لكنها لا تتحارب.

شارك المقال