بعد الحرب… لا يمين نتنياهو المتطرف ولا “حماس”!

جورج حايك
جورج حايك

قد يكون الكلام عن السلام بين الاسرائيليين والفلسطينيين الآن ليس منطقياً، لأن ما يشهده قطاع غزة اليوم هو “هولوكوست” حقيقي عبر الآلة العسكرية الاسرائيلية أدى إلى قتل ما لا يقل عن 8000 فلسطيني رداً على عملية “طوفان الأقصى” التي نفّذتها حركة “حماس” في 7 تشرين الأول المنصرم، وأدت إلى مقتل 1500 اسرائيلي وأسر 230.

حتماً لا صوت يعلو فوق صوت المعركة الآن في ذروة العملية البرية الاسرائيلية للإقتصاص من “حماس” وتدمير بنيتها العسكرية، لكن على الرغم من هذه المشهدية النارية والدمويّة، ترى مصادر ديبلوماسية عربية أن الهدف من الحرب هو السلام، وقد أثبت التاريخ أن نهاية كل حرب سلام، وشكّلت نزاعات الدول الأوروبية بين بعضها البعض في التاريخ وصولاً إلى الحربين العالميتين الأولى والثانية نموذجاً واضحاً، وهي تتعايش اليوم باستقرار وسلام!

وتكشف المصادر الديبلوماسية أن القضية الفلسطينية وصلت في المرحلة الأخيرة إلى طريق مسدود بعدما سيطرت على طرفي النزاع جبهتان متطرفتان تمثلتا باليمين الاسرائيلي المتطرف بشخص رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، وبحركة “حماس” التنظيم العسكري الاسلامي القوي والأكثر تطرفاً لدى الفلسطينيين، المدعوم من إيران الدولة الإقليمية الكبيرة التي تفرض سيطرتها على دول عربية عدة منها: اليمن، العراق، سوريا، لبنان وقطاع غزة.

وترى المصادر أنه لا يمكن لجبهتين متباعدتين، أصوليتين، رؤيتهما متناقضة أن تتجنبا الحرب، لذلك ما حصل لا يدعو الى الاستغراب، إنما مبادرة “حماس” إلى خوض عملية بهذا الحجم من دون الأخذ في الاعتبار حجم الرد الاسرائيلي الذي بدا متوحشاً ولم يفرّق بين العسكريين والمدنيين، فشنّت تل أبيب حرب إبادة بعدما بررت لها “حماس” ممارسة هذا القصف الوحشي برضى دولي.

لقد أرتكبت أخطاء كثيرة من الطرفين ما قبل 7 تشرين الأول وحتى اليوم، فمصير التطرف هو الحروب لا محالة، وعقليّة حكومة نتنياهو التي سبّبت بلبلة داخلية في اسرائيل وهمّشت السلطة الفلسطينية المعتدلة ورفضت حل الدولتين، لا يمكن أن يكون هدف عملها السياسي التوصّل إلى السلام. وتعتبر المصادر الديبلوماسية العربية أن المبادئ التوجيهية الملزمة لحكومة نتنياهو تنص على أن “الشعب اليهودي له حقّ حصري وغير قابل للتصرف في جميع أنحاء أرض إسرائيل” ما جعلها تعتمد الخيار الأمني للتعامل مع “الحالة” الفلسطينية. لذا كان من البديهي أن يؤسّس هذا التطرف الاسرائيلي لتطرف فلسطيني تمثّله “حماس” خير تمثيل، وقد اتخذت من شعارات ايران التي تروّج لخيار ازالة اسرائيل من الوجود مبدأ عاماً، مقتنعة بأن اسرائيل لا تفهم إلا بلغة العنف والقوة والمقاومة العسكرية.

لكن الأكاديميين يعتبرون الحرب “شكلاً من أشكال السياسة”، مع ذلك، لا تبدو السياسة موجودة في قاموسي اسرائيل و”حماس”، فالتوصّل إلى هدنة إنسانية أو وقف اطلاق نار يكاد يكون مستحيلاً في غزة اليوم، إنما تعتبر المصادر الديبلوماسية العربية أن لدى عواصم القرار الغربية والعربية توجهاً للبحث في تسوية سياسية أو مستقبل سلام محتمل وهذا ما تعكسه التصريحات والنصوص الرسمية التي تصدر عن العواصم الغربية وبعض العواصم العربية الفاعلة.

وهذا ليس بالأمر المستحيل، فبعد حرب يوم الغفران عام 1973، أدركت إسرائيل أنه لم يكن هناك مانع من وضع البلاد على طريق السلام مع مصر. وتلفت المصادر الديبلوماسية إلى أن أكبر مأساة بعد انتهاء الحرب الحالية ستكون عدم القدرة على فعل الشيئ نفسه مع الفلسطينيين.

أما المفاجئ في معطيات المصادر الديبلوماسية فكان بكلام واضح أن من يقود الحرب اليوم من جهتي اسرائيل وفلسطين، لا يمكن أن يقود أي مفاوضات وأي سلام لأنهما سيكونان في موضع محاسبة شعبية ورسمية، فنتنياهو مسؤول عن ترك البلاد عرضة لهجمات “حماس”، لكن الضرر الذي أحدثه هو وحكومته أعمق بكثير، ما جعل الاسرائيليين أكثر عرضة للخطر مما كانوا عليه منذ عقود. وأكثر من ذلك كان يلهو بتعزيز أجندة اليمين المتطرف، بمزيد من عمليات الضم في الضفة الغربية، كما أدت أعماله العدوانية المناهضة للفلسطينيين في الضفة الغربية، من خلال خطوات مثل قانون الدولة القومية اليهودية إلى تفاقم التوتر بطرق جعلت الهجمات الارهابية أكثر احتمالاً. وتقول المصادر بأن قرار نتنياهو نفسه شجّع “حماس” وسمح بتمويلها، وهو قرار كان يتباهى به باعتباره وسيلة لبناء الدعم لائتلافه، وكان يعتبر أن التطبيع مع بعض الدول العربية سيكون كافياً والقضية الفلسطينية لم تعد ذات أهمية حقيقية لقضايا السلام والاستقرار في المنطقة، وهذه أخطاء فادحة لا بد من أن يُحاسب عليها بعد انتهاء الحرب.

واللافت أن نتنياهو لا يزال يرتكب الأخطاء حتى اليوم، إذ أن تقويمه لما حدث يضعه في السبت الأسود أي عملية “طوفان الأقصى”، مستغفلاً عن سابق تصوّر وتصميم أن التقويم الموضوعي لما حدث يجب أن يأخذ في الاعتبار أن تاريخ حدوثه يعود الى أسباب تتعلق بعقود من الاحتلال!

لا يبدو أنه سيكون هناك مستقبل لنتنياهو في المرحلة المقبلة، فصورته ستبقى في عيون الاسرائيليين أنه رجل حرب لا سلام، وستنتهي مسيرته بمجرد انتهاء حرب غزة، وخصوصاً أن يديه أصبحتا ملوثتين بدماء الاسرائيليين والفلسطينيين معاً، ولا يُصلح لأي عملية سلام، ويكفي أنه يواجه أكبر فضيحة أمنية وعسكرية وسياسية واستخباراتية في تاريخ إسرائيل.

وتجزم المصادر الديبلوماسية المطلعة بأن الخطاب العلماني في إسرائيل بعد الحرب سيكسب زخماً جديداً، لا سيما أنه يطالب بوضع حد لنفوذ الأحزاب الدينية سياسياً، والتيار الديني ثقافياً، لعدم تكرار مواجهة إسرئيل لحروب مفاجئة تشن ضدها في المناسبات الدينية التي تفرض حالة استرخاء كامل في الدولة بكل مؤسساتها وفي المجتمع بكل طبقاته.

لكن المصادر تشير إلى أن مشهدية التغيير بعد الحرب لن تقتصر على نتنياهو، إنما ستمتد إلى الطرف الفلسطيني أي “حماس” التي لن تتوقف الحرب الاسرائيلية إلا بعد القضاء على بنيتها العسكرية وإخراجها من المعادلة السياسية. ويبدو أن عواصم القرار ترى في الحرب اليوم، على الرغم من ويلاتها والبؤس الذي تسببه للشعب الفلسطيني، وسيلة للانتهاء من الجهتين المتطرفتين، ولا شك في أن “حماس” بانتمائها إلى محور الممانعة الذي تقوده إيران، تشكّل عائقاً أمام مسيرة السلام، لذلك أمّنت الادارة الأميركية الدعم اللازم لإسرائيل لإتمام المهمة والقضاء على “حماس”. ويتطلع الرئيس جو بايدن إلى تحقيق انجاز بحل القضية الفلسطينية أو وضعها على سكة السلام قبل الانتخابات الأميركية في تشرين 2024. وتخطط إدارته لمساعدة الاسرائيليين والفلسطينيين على البدء منذ الآن بالتخطيط لملء فراغ الحكم الذي قد ينجم عن إنهاء حكم “حماس”، لكي لا تملأ الجهات الفاعلة المزعزعة للاستقرار هذا الفراغ.

ولا تخفي المصادر الديبلوماسية العربية أن الدول العربية الفاعلة كالسعودية ومصر والأردن تلتقي مع السياسة الأميركية والأوروبية التي تهدف إلى عودة “السلطة الفلسطينية” كحكومة شرعية في غزة للتوصّل إلى حل الدولتين، على الرغم من أن ذلك يتطلب إنشاء إدارة مؤقتة لادارة غزة إلى أن تتمكن “السلطة الفلسطينية” من الاضطلاع بهذا الدور، وتقوم هذه الادارة بإدارة مدنية، وإنشاء جهاز للسلامة العامة وإنفاذ القانون، تلعب فيه الوحدات العسكرية التابعة للدول العربية دوراً مركزياً، وتحالف دولي لاعادة الإعمار والتنمية.

قد لا يكون سهلاً هذا السيناريو في وجود ايران وطموحاتها التوسعية وتمسّكها بأن تكون مرجعية القرار السياسي الفلسطيني في يدها، بل لن تقبل سوى أن تكون على طاولة المفاوضات في أي تسوية مقبلة.

لكن المصادر الديبلوماسية العربية تؤكّد أن لا نتنياهو ولا “حماس” سيكونان في عملية التفاوض بعد الحرب، ما سيفتح نافذة فرص لتغيير وجه الشرق الأوسط!

شارك المقال