في عصر “الطوفانات”… نفتقد “الرفيق” حامل لواء السلام

محمد نابلسي

في خضمّ حالة “الغليان” العارمة في إقليم الشرق الأوسط، وبالتزامن مع المجازر الدامية وعمليات الإبادة بحق الفلسطينيين، وعلى وقع القصف المتبادل على أطراف الحدود اللبنانية الجنوبيّة، ينزلق لبنان باتجاه تصعيد، ذي تبعات غير محسوبة. في الحديث عن المجهول، يستقصي المواطن بحثاً عن الدولة الغائبة، بفِعل تسليم قرارها للدويلة. وهناك من المواطنين من يستذكر الرئيس الشهيد رفيق الحريري، مفتقداً المسؤولية التي رافقته حيال أي حدث أو “خضّة” أحاطت بالبلاد.

ليس جديداً ما يحصل في قطاع غزّة من مجازر واعتداءات وحشيّة بحقّ المدنيين، إذ إنّ الجيش الإسرائيلي، لم يظهر عنفه المفرط على المدنيين في غزة فحسب، بل أظهره بصورة دامية، على سكان الجنوب اللبناني في قانا، أثناء عمليّة “عناقيد الغضب” العسكريّة على لبنان، ربيع العام 1996.

وعالج رئيس مجلس الوزراء آنذاك رفيق الحريري، هول الكارثة التي وطأت أرض لبنان بكلّ تمكّنٍ واتّزان. يفنّد وزير الخارجية السابق فارس بويز، في حديث لموقع “لبنان الكبير”، الخطوات الحثيثة التي قام بها الرئيس الحريري إبّان العدوان الإسرائيلي على لبنان، و”وظّف علاقاته الدوليّة التي لم يكن يستهان بها” لمصلحة لبنان. كما أن العلاقات التي جمعته “بالرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك، والولايات المتحدة الأميركيّة، والمملكة العربيّة السعوديّة” كانت محفّزاً للوصول إلى اتفاق شديد التحصين.

يضيف بويز أنّ حدّة الصراع آنذاك، والظروف المحيطة، لم تخوّل الحريري “الوصول إلى حل جذري، وكان لا بدّ من خلق فلسفة جديدة، وهي عبر تنظيم الصراع”. كذلك كان الرئيس الحريري ينظر الى الأمور بغاية الدقّة، “فميزان القوى لم يكن حاسماً لناحية طرف على حساب آخر” يقول بويز، وبالاستناد الى المعطيات كان من المجدي “حصر المفاعيل التي تؤدّي إلى صراع، بأكبر قدر ممكن، وهذه النظرية تتجلّى في إدارة الصراع”. ويوضح أنّ هذه النظرية “ما زالت موجودة وقائمة حتى يومنا هذا، وتسمّى بقواعد الاشتباك”.

من السراي الحكومي في وسط بيروت، يوم 26 نيسان 1996، وبحضور كل من الوزير بويز، ووزير الخارجية الفرنسي آنذاك هيرفيه دو شاريت، أعلن الرئيس الحريري التوصل إلى صيغة تنهي الحرب، وترسي معادلات استراتيجية؛ فكان “تفاهم نيسان 1996” نقطة تحوّل في الصراع اللبنانيّ – الإسرائيلي.

عن “تفاهم نيسان 1996″، يؤكد بويز أنّه كان حاجة ملحّة لإعطاء المقاومة اللبنانيّة غطاءً شرعيّاً عالميّاً، وأنّ تفاهم نيسان ساوى بين المقاومة من جهة، والجانب الإسرائيلي من جهة ثانية “من حيث الاعتراف الدولي، وأصبح العالم يتعاطى مع هذا الواقع، على أساس أن هناك فريقين متصارعين، هما: إسرائيل والمقاومة اللبنانية”. سبق ذلك، ضغوط أميركيّة دائمة بوجوب إلغاء المقاومة وحلّ “حزب الله”. ويتابع الوزير السابق أنّه في كل زيارة لمسؤولين أميركيين إلى بيروت، وفي أي لقاء وقمّة يشارك فيها لبنان “كان عنوان وضع حد لأعمال حزب الله يطرح بصورة كثيفة. وإن لم يكن من ضمن جدول الأعمال، كان يطرح من خارجه ووضعه في المقدمة”.

استناداً الى ذلك، فإنّ الموقف الوطني للحكومة اللبنانية، أفسح المجال أمام الضغط على الجيش الإسرائيلي، وإتمام انسحابه من أراضي الجنوب اللبنانيّ في 25 أيّار 2000. لم يكن الفضل آنذاك للمقاومة اللبنانيّة وحدها فحسب، وعندما يتمّ الحديث عن تفرّد المقاومة وحدها في تحرير الجنوب، نذكّر بأنّ غطاء الحريري، والمعركة “الديبلوماسية” الشرسة التي خاضها، حمت “ظهر المقاومة”، وحرّرت الجنوب، وأرست السلام في المنطقة.

في السياق عينه، كشفت صحيفة “الشرق الأوسط” وثائق بريطانيّة “رُفِعت عنها السريّة حديثاً”، تضمّنت أبرز محادثات السلام اللبنانية – الإسرائيلية؛ والتي شملت 11 جولة من المحادثات في العاصمة الإسبانية مدريد. لم تسِر المحادثات كما رُسِم لها، فالرئيس الحريري، كان ينظر الى الأمور بقدرٍ عالٍ من الحسّ العروبيّ والمسؤوليّة التاريخيّة، فأراد الحفاظ على القضيّة الفلسطينيّة، وعدم تخطّيها أو نسيانها.

“محادثات السلام أصيبت بمقتل، حين اغتيل (اسحق) رابين” يكشف الوزير بويز، ويعتبر أنّ ذلك كان “إشارة واضحة، الى أن المجتمع الإسرائيلي، ومن يسيطر عليه من المتطرفين، لا يريدون السلام، واغتالوا رابين”. لكنّ التوسّع الاستيطاني، وغياب أيّ ضمانة لحقوق الفلسطينيين، والاعتداءات الوحشيّة المتكرّرة على قطاع غزّة وأراضي الضفة الغربية، أظهرت أنّ سلوك بنيامين نتنياهو المتطرّف، لا يمثّل سوى “مشاغبات” همجيّة، أسماها بويز “مناورات إسرائيلية لنسف المحادثات”.

تفصيلاً، وبحسب الوثائق أيضاً، كان للرئيس الحريري موقف واضح، من خلال محادثاته مع رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، قائلاً: “نتنياهو لا يريد تحقيق تقدم. يماطل فقط. لا يريد ترك الضفة الغربية وغزة، ويضع يده على القدس. النشاط الاستيطاني يتواصل. وكل هذا لا يخدم سوى تقوية الأصوليين، لكن نتنياهو لا يعي ذلك”. وبعيداً عن أيّة معطيات حاليّة، إلّا أنّ حكمة الرجل، أوضحت، أنّ استمرار السلوك العدواني، وسياسات نتنياهو العنجهيّة المتطرّفة “لن تؤدي سوى إلى تنامي نفوذ حماس والأصوليين”.

في مقاربة لمجريات الأمور، لا يمكن الفصل بين ظروف محادثات السلام اللبنانية -الإسرائيلية، والسعوديّة – الإسرائيليّة حاليّاً، بل هي بمواصفات متطابقة، محورها نتنياهو نفسه. من البديهيّ القول، انّ الشروط التي وضعها وليّ العهد السعوديّ الأمير محمّد بن سلمان لإنجاز تفاهمات السلام مع إسرائيل، هي هي التي وضعها الرئيس الحريري من قبل؛ والتي تضمن حقوق الفلسطينيين باستقلال دولتهم. كذلك فإنّ تعنّت نتنياهو، وأقرانه من اليمين المتطرّف، يؤدّي إلى تقييد السير نحو السلام.

لبنان وفلسطين، توأمٌ في عقل الرئيس الشهيد رفيق الحريري وفي عمق وجدانه، وليس منطقاً تخوين الرجل بسبب مواقفه، أو تضليل حقيقة دوره الوطنيّ الجامع، وحنكته الاستراتيجيّة، ونظرته الثاقبة الى الأمور. أمّا في عصر “الطوفانات” و”الخضّات” المحيطة، فنفتقد حامي الوطن وضمانته، وصائن القضية الفلسطينية، وحامل لواء السلام الدائم، لا رايات التهديد بالحرب واللعب بالنار، بحسب “المناخ الإقليميّ” المتغيّر.

كلمات البحث
شارك المقال