الحرب في غزة لا تفرّق بين مسلميها ومسيحييها

جورج حايك
جورج حايك

لا يختلف إثنان على أن الشعب الفلسطيني في غزة هو ضحية الحرب الدائرة بين اسرائيل وحركة “حماس”، بحيث يسقط آلاف الضحايا كل يوم من دون التمييز بين مسلم ومسيحي.

هؤلاء الفلسطينيون يحبّون أرضهم ويتمسّكون بها بصرف النظر عن دينهم، وخصوصاً أبناء غزة الذين عاشوا منذ مئات الأعوام في هذه المدينة، كنائسهم تجاور مساجدهم، من ضمن نسيج اجتماعي وعائلي متماسك، بمظلومية واحدة إسمها “القضية الفلسطينية”، واسرائيل لا تفرّق في حربها بين مسلمين ومسيحيين يعيشون مع بعضهم البعض في السراء والضراء.

ولم يكن مستغرباً أن يفتح المسيحيون الكنائس لاستقبال المسلمين، وتفتح المساجد لاستقبال المسيحيين! ويبدو لسان حالهم واحد: “نحن جميعاً فلسطينيون. نحن نعيش في المدينة نفسها، بالمعاناة نفسها”.

لا يعرف كثيرون أن غزة لديها مجتمع مسيحي خاص بها، ويعود تاريخ وجود المسيحيين في قطاع غزة إلى بدايات اضطهاد الدولة الرومانية لأتباع الدين الجديد. كانت غزة إحدى المناطق التي زارها الرومان قبل تحول الامبراطور قسطنطين إلى المسيحية واعتمادها الديانة الرسمية للامبراطورية الرومانية في بداية القرن الرابع الميلادي.

على الرغم من الحروب التي جرت في فلسطين عقب دخولها الاسلام من بوابة غزة، مروراً بالحملة الصليبية، إلى زمن صلاح الدين الأيوبي، إلى عصر المماليك، إلا أن الوضع المسيحي – الاسلامي ظل يشكل ترابطاً أخوياً منذ عصر المماليك، مروراً بالعثمانيين ثم البريطانيين حتى الاحتلال الاسرائيلي، بغض النظر عن ديانات الأمم التي تعاقبت على احتلال الأرض الفلسطينية عبر التاريخ، التي لم تستطع تدمير النسيج الاجتماعي الفلسطيني.

لكن لا بد من الاعتراف بأن ثمة تغيير شعر به المسيحيون في غزة منذ سيطرة حركة “حماس” على قطاع غزة عام 2007، إذ تراجع عددهم من حوالي 3000 شخص إلى 1000، وهو انخفاض حاد يجعل منهم جماعة مهددة بالانقراض في هذا القطاع. واللافت أن مسيحيي غزة ينتمون إلى الكنيسة الأرثوذكسية، ما عدا أقلية كاثوليكية، علماً أن مجموعة من حركة “حماس”، إثر الاقتتال الداخلي الفلسطيني عام 2007، اقتحمت الكنيسة المعمدانية في غزة التي تضم مستشفى لخدمة أطياف الشعب الفلسطيني كافة وقاعات مكتبية، واغتالت رئيس مكتبة الكنيسة المعمدانية رامي عياد، بعدما تم اختطافه وتعذيبه.

أدت عملية اغتيال عياد إلى مغادرة أعداد كبيرة من مسيحيي غزة للضفة الغربية ومصر، بالاضافة إلى سبعة من القيادات المسيحية في غزة بمن فيهم حنا مسعد الذي أسس الكنيسة المعمدانية. وبسبب صعوبة التواصل مع رعايا الكنائس في غزة في الشق الآخر من الوطن في ظل الحصار الخانق على القطاع، تضاءلت أعداد المسيحيين، بحيث لا يتجاوز أعدادهم حاليّاً، كما ذكرنا آنفاً 1000 شخص! والمفارقة أن اسرائيل أكملت ما بدأته “حماس”، فقصفت الكنيسة المعمدانية أواخر عام 2008، فاستشهد عدد من أبنائها!

لم تضطهد “حماس” المسيحيين في غزة، إلا أن الأمر لم يخلُ من مضايقات منها ومن بعض الفصائل التي ضيّقت على المسيحيين ممارساتهم والاحتفال بأعيادهم بحرية. مع ذلك، استمروا في التعايش مع الفلسطينيين المسلمين ولم تتغيّر النظرة القومية العلمانية الاجتماعية، لكن أسلوب “حماس” في المقاومة المسلّحة وحروبها المتتالية مع اسرائيل التي فرضت حصاراً برياً وجوياً وبحرياً على القطاع، أدى إلى تسريع نزوح المسيحيين من المنطقة الفقيرة، فأصبح من الصعب جداً عليهم أن يعيشوا في هذه الأجواء، وذهب العديد منهم إلى الضفة الغربية حيث تربطهم علاقات جيدة مع السلطة الفلسطينية، إضافة إلى هجرتهم إلى الولايات المتحدة الأميركية أو كندا أو الدول العربية بحثاً عن تعليم وصحة أفضل.

ولا ينكر بعض مسيحيي القطاع أن هجرتهم ليست بسبب “حماس” وحسب، إنما بسبب الظروف التي خلقها الاحتلال الاسرائيلي، فهم يعانون معاناة المسلمين نفسها كلّما أرادوا الخروج من غزة للوصول إلى الأماكن المقدسة في القدس وبيت لحم للمشاركة في إحياء أعيادهم ومناسباتهم الدينية، ويشكو هؤلاء من تأثيرات الحواجز الاسرائيلية واعتداءات المستوطنين ومصادرة الأراضي. كذلك تقلقهم قلة الأمن، وترى غالبية كبيرة منهم أن إسرائيل تريد طردهم من وطنهم، وهذا الأمر ينطبق على آلاف الفلسطينيين الذين هاجروا من غزة.

قد تكون حرب اسرائيل على غزة المسمار الأخير في نعش المسيحيين الباقين هناك، وقد زاد الطين بلّة، قيام اسرائيل بقصف كنيسة القديس بورفيروس الأثرية التابعة لطائفة الروم الأرثوذكس منذ أسبوع، وكان يختبئ فيها المئات، فقتل العشرات، وأصبح الغزاويون في مهب الريح ومن دون سقف يحميهم. والجدير بالذكر أن هذه الكنيسة تعود إلى القرن الخامس، وشفيعها بروفيروس حوّل وثنيي المدينة إلى المسيحية، وأحرق الأصنام والمعابد. وبعد الفتح الفارسي في القرن السابع، تم تحويل الكنيسة إلى مسجد. أعيد بناؤها لاحقاً على يد الصليبيين في القرن الثاني عشر، وهي تشكّل مع كنيسة العائلة المقدسة التابعة للطائفة الكاثوليكية الملاذين الأخيرين للمسيحيين هناك ويحتمي فيهما قرابة 900 من المسيحيين الذين أخلوا بيوتهم منذ بداية القصف الاسرائيلي على القطاع قبل أكثر من ثلاثة أسابيع.

ويتوزع المسيحيون في غزة على مناطق متفرقة بين الرمال والميناء الجنوبي وتل الهوى. وإلى جانب الكنيستين، تدير أخوات الأم تريزا في غزة، داراً للرعاية تضم 60 طفلاً مسلماً معاقاً وبعض الجرحى، عائلاتهم لاجئة ومتناثرة في كل مكان، ولا يستطيع أحد أن يأتي ويأخذهم، لقد بقوا وكذلك الجماعة بأكملها، وقرروا أن يحيوا ويموتوا معاً، بالقرب من الكنائس!

في غزة، لا فرق بين هذا وذاك، فوفق قانون الاحتلال الكل لا يستحق البقاء على قيد الحياة، وطالما أنت تحمل الهوية الفلسطينية فلا معنى إذا كنت مسلماً أو مسيحياً، سيطالك الموت أو الموت البطيء. لذلك يعرب المسيحيون هناك عن معارضتهم الشديدة لحكومة بنيامين نتنياهو التي تهدف إلى احتلال الأراضي الفلسطينية، وطرد الفلسطينيين من ديارهم، لأنها تعدم فرصة إقامة دولة فلسطينية وتسلب الحقوق الفلسطينية، بل يذهب المسيحيون الغزاويون أكثر من ذلك بأنهم مع اليهود المؤيدين للسلام والمؤمنين بحقوق الشعب الفلسطيني وإقامة دولته المستقلة واسترجاع أرضه المحتلة، ويؤيدون السلام الذي تطرحه السلطة الوطنية الفلسطينية بأن يعيشوا مع الاسرائيليين جنباً إلى جنب بسلام، دولتين متجاورتين من دون حرب ومن دون احتلال.

في المحصلة، يعيش المسيحيون في غزة بين سندان نظام حركة “حماس” ومطرقة اسرائيل، ويمكن القول انهم والمسلمين الغزاويين ضحايا حرب شعواء لا تعرف معنى الانسانية!

شارك المقال