نصر الله… هذه المرة أعلم جيداً!

أنطوني جعجع

لم يكن حسن نصر الله في خطاب الجمعة الماضي الرجل نفسه الذي كان عليه قبل “طوفان الأقصى”، ولم يكن لا على قدر الرهانات التي كانت تعقد عليه، ولا على قدر المخاوف التي كان يثيرها في صفوف خصومه.

ولا يتعلق الأمر بنقص في قوته أو هيبته بل بنقص في استقلالية قراره وحريته، اذ بدا في كثير من مواقفه وكأن في فمه ما هو ممنوع من المكاشفة، أو كأنه ذاك “النمر المكبل” الممنوع من القتال، أو ذاك “الانتحاري” الذي يجب أن يرمي نفسه في النار كلما ضاقت السبل بمحور الممانعة، أو أنه في أفضل الأحوال الوسيط الأكثر مصداقية في نقل رسائل ايران الى من يهمه الأمر ولا سيما الى الولايات المتحدة التي ترابط قبالتهما في البحر الأبيض المتوسط ومياه الخليج معاً.

ويتفق الكثير من المراقبين على أن نصر الله بدا مضطراً الى الاطلالة أكثر منه راغباً فيها، وحريصاً على ابراز قوته الشعبية في بيئته أكثر من قوته العسكرية، وحريصاً على رفع الصوت والعتب أكثر منه رفع السلاح، لافتين الى أنه حاول التملص من ثلاثة أمور أساسية، أولها نفض يديه من “طوفان الأقصى”، وثانيها تحاشي التعرض للدول العربية على الرغم مما يخبئه من مآخذ وخلفيات، وثالثها ابقاء ايران بعيدة من الشبهات بأي ثمن.

وثمة أمر رابع أشار اليه المراقبون وهو تركيز الرجل على “أرشيف” الصراع مع كل من اسرائيل وأميركا أكثر منه على حاضره، في خطوة تدخل في اطار الحرب الكلامية والتعبئة النفسية والتجييش الشعبي أكثر منه الدعوة الى الجهاد.

والواقع، أن نصر الله لم يكن موفقاً في تبرير المناوشات التي يتبعها على الجبهة الجنوبية، اذ بدا وكأنه حريص على مستقبل حركة “حماس” أكثر منه على تحرير شبعا وتلال كفرشوبا، وعلى ايجاد مبررات التردد أكثر منه دوافع الاندفاع، محاولاً الالتفاف على الشكوك المحلية حيال مصداقية “المقاومة الاسلامية” وسلاحها، وهي شكوك ساورت بيئته وحلفاءه خلف الستائر، ومتحاشياً مقارعة الطعون العلنية التي لاحقته، وهي الطعون التي ميزت بيئة المعارضة وحلفاءها.

وتكشف مصادر قريبة من الضاحية الجنوبية، أن نصر الله يتلقى معلومات غير مطمئنة من أنفاق غزة على الرغم من الصمود اللافت الذي تبديه حركة “حماس” ، مشيرة الى أنه يجد نفسه بين خيارين مرّين، اما التفرج على غزة وهي “تذبح” أمام عينيه، واما “ذبح” الحزب أمام عيون ايران التي لا تبدو حتى الآن على الأقل مستعدة لخوض أي مغامرة عسكرية من أجل أحد، أو الدخول مع حلفائها دفعة واحدة في حرب قد تتحكم ببداياتها وتجهل نهاياتها.

وتضيف المصادر: “ان ايران وحزب الله باتا على اقتناع بأن اسرائيل التي تخوض اليوم حرب غزة هي غيرها التي خاضتها في حروب سابقة”، مشيرة الى أنهما يتعاملان مع حكومة مجنونة لا ضوابط لها ولا لجام ولا رادع من أي نوع، وأنهما رصدا أجواء تفيد بأن اسرائيل لن تتردد في استخدام أسلحة غير تقليدية أي القنابل النووية اذا وجدت نفسها أمام حرب وجودية.

وتذهب المصادر بعيداً الى حد القول: “ان محور الممانعة استنفد كل المغريات أو المبادرات أو الحملات أو حتى التهديدات التي يمكن أن تلجم الجنون الاسرائيلي، وانه وصل الى اقتناع بأن لا شيئ يعطي ثماره، سواء موت الأطفال والنساء أو هدم المشافي والمعابد والمدارس والمنازل وكل مصادر الحياة ولا حتى التلويح باطلاق الأسرى المحتجزبن في أقبية غزة وأنفاقها”، مشيرة الى أن أكثر ما يحرجها هو الوقوف الآن أمام خيارين لا ثالث لهما: اما التضحية بالورقة الفلسطينية الداخلية والاكتفاء بورقة الشتات، واما الذهاب بالقوة الى حرب لا تريدها في المطلق.

وليس سراً أن هذا المشهد القاتم ترافق، في أوساط “حزب الله”، مع أمرين: الأول طبيعة السلاح الاستخباري الجديد الذي تستخدمه اسرائيل في كشف منصات الصواريخ ونسفها مع طواقمها في جنوب لبنان، والثاني الجدية الأميركية في الدفاع عن اسرائيل على كل الجبهات الممتدة من لبنان الى ايران.

وليس سراً أيضاً أن حسن نصر الله تلقى تعليمات من طهران بعدم الذهاب بعيداً في مناوشاته، وانتظار النتائج التي قد تترتب عن الهجوم البري الاسرائيلي الذي يمكن أن يؤدي الى واحد من أربعة أمور: الأول سقوط غزة كلها في قبضة اسرائيل وتنصيب محمود عباس سيداً مطلقاً على فلسطين، والثاني سقوط قسمها الشمالي وتحويله الى حزام أمني يشبه الحزام الذي أقامته في جنوب لبنان بعد حرب العام ١٩٨٢، والثالث صمود حركة “حماس” وارغام تل أبيب على الذهاب الى طاولة المفاوضات تحت شعار لا غالب ولا مغلوب، والرابع التورط في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة التي تسيطر على أجواء المنطقة من طهران الى لبنان، وتنشر من السلاح ما يكفي ربما لخوض حرب عالمية ثالثة، لا سيما بعدما اشتمت تورطاً روسياً محتملاً في عملية “طوفان الأقصى”.

الواقع أن الكثير من حسابات ايران لا تبدو صائبة أو على الأقل قابلة للمساومة، في وقت يسود قرار اقليمي ودولي، وليس مجرد أفكار، يؤمن بأن لا سلام في الشرق الاوسط من دون قضم أظافر ايران، ولا مجال لحل الدولتين من دون التخلص من حركة “حماس” وتحجيم “حزب الله”.

والواقع أن اسرائيل تعرف ذلك وتحاول الاستفادة قدر الامكان من هذا الدعم الذي ترى فيه مدخلاً الى آخر حرب يمكن أن تخوضها بعد حرب غزة.

ويقر مصدر ديبلوماسي غربي بأن محور الممانعة، سواء قصداً أو عفواً، “أنقذ” اسرائيل مرتين في أقل من شهر، الأولى امتناعه عن فتح الجبهات بالتزامن مع “طوفان الأقصى”، والثانية عدم فتحها أيضاً لتخفيف الضغط عن “حماس” التي باتت تعترف بأنها تخوض “حرباً غير متكافئة” مع الجيش الاسرائيلي المطمئن حتى الآن الى جبهته الشمالية.

هذا الانطباع برز في أشكال متنوعة في خطاب نصر الله الذي بث فيه رسائل “مطمئنة” ليس الى حركة “حماس”، بل الى الاسرائيليين أنفسهم عندما كشف أن مناوشاته في الجنوب ليست الا محاولات الهاء، وأيضاً الى الأميركيين الذين خاطبهم بلهجتين، الأولى طالبتهم بوقف الحملة العسكرية الاسرائيلية على غزة، وفتح باب التفاوض على موضوع الأسرى والثانية هددت بضرب الأساطيل الأميركية وسط تقارير تكشف أنه ينتظر الحصول من روسيا وكوريا الشمالية على صواريخ متطورة مضادة للسفن.

وأكثر من ذلك، لا تبدو اطلالة اللواء عباس ابراهيم فجأة مبدياً استعداده للتوسط في موضوع الأسرى بعيداً من تنسيق محتمل مع حسن نصر الله، وكذلك الأمر بالنسبة الى المبادرة التي حملها الرئيس نجيب ميقاتي الى وزير الخارجية الأميركية انطوني بلينكن وعدد من وزراء الخارجية العرب في عمان، وسط تسريبات من السراي الحكومي تفيد بأن ميقاتي ما كان ليجرؤ على أي تحرك ديبلوماسي من دون ضوء أخضر من ايران والضاحية الجنوبية.

في اختصار يمكن القول ان حسن نصر الله تعثر في معركتين دفعة واحدة، الأولى أمام الرأي العام اللبناني المنقسم بين فئتين: فئة خائبة وفئة شامتة، الأولى وجدت فيه رجلاً لا يملك قراره في يده كما حاول الايحاء دائماً، وفئة التقطت فرصة ثمينة للطعن بدور ايران وحلفائها في لبنان والمنطقة معاً.

وفي اختصار أيضاً، لا بد من السؤال ماذا يمكن أن يقول الرجل السبت المقبل وهو الذي فقد من الرجال في “حرب المناوشات” في الجنوب ما يوازي ما فقده في “حرب تموز” الشاملة، وهو الرجل الذي يعرف أنه لا يملك ما يقال في حرب لا تريدها ايران، وأنه في الأمس دُفع دفعاً الى المنبر مجرداً من منطقه ومن سلاحه ليقر أمام العالم كله بأنه ممنوع أن يقامر أو يغامر أو يجازف لأن كل المعطيات والتحديات القائمة الآن تجعله هذه المرة يعلم ويعلم جيداً؟

شارك المقال