لماذا يستعدي هؤلاء العرب الامارات والسعودية؟

معتز قطينة
معتز قطينة

الجيل الراهن من الشباب العربي محمّل بالخيبات، نتحدّث عمن ولدوا مطلع التسعينيات الميلادية من القرن الفائت وما بعدها، شهد هؤلاء منذ طفولتهم وحتى اليوم أحداثاً جِساماً عاثت في المنطقة العربية. وُلدوا عندما احتلّ صدّام الكويت، رأوا أطفالاً انتفاضة الأقصى وفلسطين ترسل أبناءها إلى موت محتوم في مواجهة أبدية غير متكافئة. أحداث أيلول (سبتمبر) وانقسام العالم إلى فسطاطين وإصابة الرأسمالية العالمية بالهستيريا بعد إصابتها في مقتل – إن صدَقَت الإصابة ـ، متطرّفون أصواتهم تصعد من وراء الكهوف، مصطلح الإرهاب يتحوّل نحو الشرق الأوسط ويوصم به المسلمون. رأى هذا الجيل في صباه كيف سقطت بغداد وسُلّمت لإيران بيد المحتلّ الأميركي، سمع عن رؤى يصنعها غرباء للمنطقة، الفوضى الخلّاقة والشرق الأوسط الجديد، عاصر الفوضى وهي تنتشر، واستُخدم بعضهم جزءاً من الكذبة الكبرى التي سُمّيت الربيع العربي، لكنه كان خريفاً أسودَ مضلِّلاً، تخلخلت الأنظمة أمامهم وتهاوت، أُطيحت رؤوس وجِيء بأخرى، بُعِثت عفاريت الإسلام السياسي ونَمَت أشواكها في كلّ بلد عربيّ، عصابة “الإخوان المسلمين” وعيالها من “القاعدة” و”داعش”، ومن اتبّع ضلالهم من الآخرين، مجازر دموية، سرقة للأوطان والثروات، تعطيل التنمية وتثبيط عجلاتها، فشلٌ مركّب في غالبية البلدان العربية أصاب السياسة والأمن والاقتصاد ومختلف المفاصل الأساس التي تقوم عليها الدول، وأطاح الفساد أحلام هؤلاء الشباب، وأبصروا طموحاتهم الكبرى في أوطانهم وآمالهم وهي تهوي ولا تقوم لها قائمة. هرب منهم من استطاع إلى أوروبا، في ذروة صعود اليمين المتطرف ضد كل ما ليس أوروبياً، ونجا آخرون بجلودهم نحو الخليج.. من كل الذي حدث ذاك، لم ينجُ من العرب إلا الخليج.

من يعيش تحت الضغط يفقد القدرة على تمييز الطيّب من الخبيث، كما تتعرّض قِيَمه لاختبار حقيقي في محكّ المواقف والأخلاقيات، يصبح أكثر عدوانية وشراسة، ومن الطبيعي إذاً أن نرى بعض أبناء العرب وهو ساخط على أحوال دوله، إما لانعدام سبل الحياة الكريمة، وتدهور الأوضاع المعيشية واقتصادها، وإما لغياب الأمن والاستقرار السياسي، أو بسبب الأمرين معاً، وهو من ناحيةٍ معذور في احتقانه وغضبه، والسخط المتنامي على أوضاعه، لكن ما لا يُعذر فيه – ولا هو مفهوم – التطاول المفرط والكراهية الشديدة للخليج وأهله، تحديداً، المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، كونهما تنالان من هذا السخط ما لا يمكن تصوره، وترتفع درجة الكراهية بشكل لا يقبله منطق، ولا يستوعبه عقلٌ راشد.

وقّعت مصر اتفاقية السلام مع إسرائيل عام 1979، وكانت تلك نقطة تحول في مسار قضية فلسطين، لتتحول عن كونها معادلة عربية – إسرائيلية شاملة، إلى معادلة ثنائية بين طرف عربيٍّ وإسرائيل. استعادت مصر تدريجياً سيناء وأراضيها المحتلّة، نال مناحيم بيغن جائزة نوبل للسلام مناصفة مع أنور السادات، لكن الأخير دفع حياته ثمناً للاتفاقية، بينما دفعت مصر عشر سنوات من تاريخها المعاصر خارج الحاضنة العربية، وكانت بموجب تلك الاتفاقية قد فتحت الباب لخروج العلاقات الاسرائيلية – العربية من الجمع إلى الفردانية. في 1983 توصل لبنان إلى اتفاقية تطبيع مع إسرائيل لكنها انهارت بعد أقل من عام. منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الرسمي للقضية والشعب، اعترفت بإسرائيل في أوسلو بموجب اتفاقية هزيلة حصلت مقابلها على حكم ذاتي مقيّد ومحاصَر، ثم لحق الأردن بالمنظمة في اتفاقية وادي عربة 1994 وأعلن عن تطبيعه مع إسرائيل، وفي العام ذاته التقى سلطان عُمان الراحل قابوس بن سعيد برئيس الوزراء الإسرائيلي في حينه إسحاق رابين، لتصبح بذلك أول دولة خليجية تعلن عن علاقاتها مع إسرائيل ثم بدأت السلطنة علاقات تجارية غير رسمية معها، تبعتها قطر في العام ذاته بتدشين أول تبادل تمثيل تجاري في الخليج. لم تنجح إسرائيل في الوصول إلى أي اتفاقات جديدة لمدة 24 عاماً. وفي 2020، أعلنت دولة الإمارات العربية المتحدة عن وقف ضم أراضٍ فلسطينية وإقامة علاقات ثنائية مع إسرائيل، وأعلنت في العام ذاته كل من مملكة البحرين، المغرب والسودان الوصول إلى اتفاقيات ثنائية أيضاً، بينما المملكة العربية السعودية لم تقِم علاقات ثنائية رسمية مع إسرائيل حتى اللحظة.

لم تكن أي من اتفاقيات السلام الثنائية تعني بأيّ شكل التنازل عن الحقوق الفلسطينية، أو إقصاءها عن محيطها العربي، لكنّ رد الفعل على اتفاق السلام الإماراتي – الإسرائيلي كان عنيفاً بشكل غير مسبوق، سواء على مستوى السلطة الفلسطينية التي استدعت سفيرها من أبوظبي وأعلنت رفض الاتفاق ـ على الرغم من اعترافها قبل 27 عاماً بإسرائيل  ـ أو من بعض الفلسطينيين والعرب الذين خرجوا إلى الشوارع للتظاهر ضدّ الإمارات، بينما طفَحت مواقع التواصل الاجتماعي ـ ولا تزال ـ بسيل من التهم والشتائم والاستعداء المطلق من مختلف أنحاء العالم العربي، بما في ذلك مواطنون سبقت دولهم الإمارات في التطبيع منذ عشرات السنين. الأمر ذاته حدث عندما أعلنت المملكة العربية السعودية إجراء محادثات مع الإدارة الأميركية بهدف التطبيع مع إسرائيل، وعلى الرغم من أن هذه النقاشات لم تسفر عن نتيجة نهائية حتى اليوم، إلا أن السعوديين يواجهون عاصفة عربية من التخوين والاتهامات ببيع القضية والتنازل عن حقوق الفلسطينيين، مع أن السعودية لم تفعل ذلك ولا تملكه.

على الرغم من أن غالبية الحكومات العربية ـ المشغولة بتدهور أحوالها الأمنية والسياسية والاقتصادية ـ لم تقدّم لفلسطين وشعبها عُشر ما قدّمته الإمارات والسعودية على مر تاريخ القضية، إلا أنهما دائماً في مرمى نيران الأصدقاء والجيران، الفارق الأكبر بين الدولتين وبقية دول المنطقة: الاستقرار واستمرار التنمية، الكلمات السحرية التي تثير حنق من يفتقدها. يقول العرب: إن الخليج لم يكن لينهض لولا الكفاءات العربية من البشر التي قدمت إليها قبل 50 عاماً، كان ذلك اتفاق منفعة متبادل مع الأشقاء العرب، قدّموا خبراتهم ومعارفهم، وقدّم لهم الخليج حياة آمنة ومالاً أسهم في رفد اقتصاد بلدانهم، واستقر كثيرون منهم في الخليج، تزوجوا ودرس أبناؤهم فيه وعملوا، ولا يزال بعضهم يعيش حتى الآن، مثلاً: يعيش نحو 700 ألف فلسطيني في السعودية والإمارات، مقيمين ـ لا لاجئين ـ ينعمون بمستويات متقدمة من الأمان والأمن، والحقوق الإنسانية الطبيعية والفرص التي تقدّمها الدولتان لكل من يعيش على أرضهما، ولا يمكن في حال من الأحوال مقارنة أوضاعهم مثلاً بنظرائهم ممن يعيشون في دول عربية أخرى يئنّ أبناؤها أنفسهم من ضنك العيش فيها.

وعلى الرغم من كونهما غير ملزمتين بذلك، فإن السعودية والإمارات قدّمتا على مدار عقود للقضية الفلسطينية، وقضايا العرب والإقليم دعماً سياسياً ومالياً غير مشروط، انطلاقاً من إيمانهما بوحدة الصف العربي كونه عمقاً استراتيجياً، ولضرورة استقرار المنطقة ونزع فتيل التوترات فيها، والالتزام بالحفاظ على حقوق الفلسطينيين بإقامة دولة عاصمتها القدس. لا تعتمد سياسة الإمارات والسعودية على شعارات طنانة وتصريحات تلهب الجماهير، لكنها في الجهة المقابلة ليست ديبلوماسية نخبوية بالمفهوم السياسي، إذ تضع على رأس أولوياتها حماية المواطن ورعاية أمنه أولاً، والحفاظ على المكتسبات الوطنية، باعتبارها قيمة عليا تمثل رأس أولويات أنظمتها، بينما تستخدم أوراقها الديبلوماسية بِصَمت وفق القنوات الرسمية، وتسخّر ثرواتها ـ التي ليس لأحد سواها الحق فيها ـ لخدمة القضايا الإقليمية العربية، ونتيجة لهذا النهج، تمكّنت دول الخليج من التركيز على العملية التنموية الداخلية، بدلاً من الانشغال بإشعال الفتن والتبجّح بشعاراتٍ لا تفضي إلى شيئ.

يزعم هؤلاء العرب أنهم لا يريدون أموالاً ولا هبات، ولا مساندات لوجيستية ولا أغذية ولا مواد طبّية ولا إعادة إعمار ولا فرصاً وظيفية لأبنائهم، ولا فرصاً دراسية لعوائلهم، ولا حياة مستقرّة تخلو من المكدّرات الاقتصادية، ولا استثمارات، ولا عملاً ديبلوماسياً مستمراً على مدار 24 ساعة لإيجاد حل جذري للقضية الفلسطينية، يريدون مظاهرات فوضوية تشعل شوارع الإمارات والسعودية، تنفّس غضب المتظاهرين وتعيدهم إلى بيوتهم مرتاحي الضمائر والحناجر، ويتسرّب من خلالها العابثون والمخرّبون كما شاهدنا في دول عدّة. يطالبون بفتح الحدود لإلقاء الراغبين في الذهاب إلى التهلكة من دون التفكير في عاقبة ما يترتب على ذلك، يشتاقون إلى صوت عبد الناصر وأبواقه الممتدّة حتى اليوم في خطب رنّانة لا تسمن ولا تغني من جوع ولا توقف مذبحة ولا تُحلّ بأرض السلام سلاماً، يريدون أن تتوقف مظاهر الحياة الجميلة والأنشطة في أبوظبي والرياض ودبي بدعوى الإبادة التي تتعرّض لها غزة، الا أنّها مستمرّة في دولهم وربما بوتيرة أعلى، لكن أنّى للخليج أن يحظى بالنعماء بينما حياتهم شقية وأحوالهم ضيقة؟

في خضم هذه الظاهرة الصوتية كما قال الراحل عبدالله القصيمي، يتجاهل أغرار التواصل الاجتماعي وبعض من ينتهج مسارهم الأفعال الحقيقية المؤثرة ولا يلتفتون اليها، عندما هبطت طائرة محمّلة بالمساعدات من دولة عربية طارت بها ركبان السوشيال ميديا وعدّوها فتحاً عظيماً، لكنّ 65 طناً من المساعدات الإماراتية عبر حملة “تراحم من أجل غزة” ــ مجموع المساعدات التي وصلت حتى الآن إلى غزة ــ لم تكن ضمن شريط الأخبار العربية. عشرات المؤسسات المحلية الإماراتية أعلنت في مبادرات شعبية عن رصد جزء من مدخولها لدعم غزة، لكنّها لا تُرى. عدد من الفعاليات المؤسسية والجماهيرية في الإمارات أُلغي إثر المجازر والإبادة التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي بحق أبناء الشعب الفلسطيني في غزة، إلا أن الدهماء لا تلتفت الى هذه الأخبار، ولا تضعها في الميزان، مئات التحرّكات والاتصالات الديبلوماسية تجريها من دون انقطاع الإمارات والسعودية منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) لحقن الدم الفلسطيني، ولا تزال. جهد إماراتي مستمرّ في الأمم المتحدة ومجلس الأمن. في السعودية، وجّه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده بإغاثة الفلسطينيين في غزة وجسر جوي لتقديم المساعدات الإنسانية، وبلغ حجم تبرعات الحملة الشعبية حتى لحظة كتابة هذا المقال، نحو 435 مليون ريال تبرع بها ما يزيد على 610 آلاف مواطن سعودي ومقيم فيها، فيما تستمر الحملة الشعبية الإماراتية لإغاثة غزة، مع استقبال ألف طفل فلسطيني وذويهم للعلاج في الإمارات، جنباً إلى جنب مع البدء بعملية “الفارس الشهم 3” الإنسانية لدعم الشعب الفلسطيني في غزة وإقامة مستشفى ميداني فيها، بأمر صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة.

ثمة تعليقات يندى لها الجبين، شتائم لا توصف، تهم بالعمالة والخيانة والانبطاح للغرب، سِباب بذيء، وأوصاف سوقية خارجة عن التهذيب، يستوي في ذلك بعض الجهلة من العامة، وبعض من يظنّون أنفسهم مؤثرين، أو من يعدّون أنفسهم بالمزايدة فنانين وأدباء، وبعض ساسة الدول الفاشلة الذي يحسب مال الخليج حقاً مستحقاً له، وبدلاً من أن يتّحد الفلسطينيون والعرب وأشقاؤهم في فضح وحشية الآلة العسكرية الإسرائيلية والدعم الأميركي المفرط لها، والتركيز بصوت واحد على ما تتعرض له غزة من تطهير عرقي وإبادة جماعية، أصبحوا يطلقون نيرانهم في كل اتجاه، مبتدئين بإخوتهم وأصدقائهم الذين يشاركونهم الهمّ والمصير، ويقفون إلى جانبهم في محنتهم. لا شك في أن هناك حملات منظمة تهدف إلى تأجيج الفتنة بين شعوب المنطقة، مستغلّة الحالة الرخوة من الوعي والتقصّي والفكر الناقد في الذهنية العربية، لكن هذا لا ينفي وجود أصوات نشاز تسيء بشكل متعمّد إلى السعوديين والإماراتيين في مواقع التواصل الاجتماعي، الأمر الذي يشتّت جهدهم عن دعم القضية، ويضطرهم إلى شرح البديهيات والمسلّمات عن مواقف دولهم والذود عنها، وهم في غنى عن ذلك لو أن مهاجميهم أدركوا الحقائق والأرقام واستندوا إليها بدلاً من الانقضاض على كل ما هو إماراتي وسعودي. يتحدث العامة في السياسة كأنهم يفقهون كواليسها، بينما الحقيقة أن أغلبهم لم يتولَّ سلطة قط أبعد من حدود غرفته أو بيته على الأكثر، ولم يسبق له العمل بالطبع في أيّ من مؤسسات الحكم أو دهاليز العمل السياسي، الذي تختلف معاييره تماماً عن كل ما نقرأ ونسمع ونشاهد من عنتريات السوشيال ميديا.

اختارت الدولتان الطريق الأصعب، المضيّ قدماً في تحمل المسؤولية والعمل انطلاقاً من إيمانهما بالواجب ووحدة الهدف. كانتا لتوفرا كثيراً من المال والجهد والوقت إن هما اكتفتا بالشعارات والخطب، بدلاً من العمل الجاد والحقيقي والإيمان بضرورة دعم القضية الفلسطينية حتى يستعيد الفلسطينيون حقوقهم، ولكانت الأصوات المارقة سكتت عنهما كما تسكتُ عمن لا يفعلون شيئاً، إذ لا مانع من أن تصافح السياسيين الإسرائيليين، ما دمتَ ترى في الإسلام السياسي وحده مقاومة، ولا مانع من أن تستمر علاقاتك مع دولة الاحتلال إن كنت ستسمح للناس بالخروج الى الشارع للهتاف ضدّها، ولا مانع من ألا تفعل شيئاً أيضاً، طالما بمقدورك الهجوم وشتم من لا ينقطعون عن العمل إرضاء للغوغاء.

شارك المقال