يا له من سقوط ذريع لكذبة “وحدة الساحات”

عبدالوهاب بدرخان

هل استفادت غزّة شيئاً من المناورات الإيرانية ومن تحرك ميليشيات “محور الممانعة” أو من رفع درجة التصعيد وخفضه في جبهة جنوب لبنان؟ هل شعر أهل غزّة بـ “النصرة” الموجّهة اليهم من “وحدة ساحات المقاومة”؟ هل استطاع “المحور” أن يمنع العدو الإسرائيلي من التدمير المنهجي لأكثر من نصف قطاع غزّة؟ هل تفاجأ أحد بوحشية هذا العدو، وهل كان ردّ فعله الانتقامي محسوباً في التخطيط لهجوم “طوفان الأقصى”؟ وهل يكفي القول إن إيران و”حزبها” اللبناني لم يكونا على علم بما أعدّته “حماس” لصبيحة السابع من تشرين الأول للتبرّؤ مما أقدمت عليه ولتخريجه بأنه قرار وتنفيذ “فلسطينيان”؟ وهل كان مخططاً فعلاً أن يدخل “حزب إيران” اللبناني المعركة في اليوم نفسه لكنه أحجم عن ذلك، ثم دخلها في اليوم التالي في اطار “قواعد الاشتباك” التي تعمّد العدو خرقها مراراً لاستدراج “الحزب” والفصائل الفلسطينية المرافقة له الى تصعيد أكبر؟ وهل تعتقد طهران أن الاتصالات بينها وبين واشنطن لا تزال سرّية تماماً، وأن مطالبها المتعلقة بمصالحها – لقاء عدم توسيع الصراع – رُفضت ولم تعد سرّية؟

حاول زعيم “حزب إيران/ حزب الله” الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها، لكنه لم يُوفّق، لأنه بات مكشوفاً أمام أنصاره وخصومه، بل انه انتهز المناسبة ليعود الى تبرير حرب 2006 كأنه يسحب مقولة “لو كنت أعرف…” من التداول بعدما ظلّت تطارده سبعة عشر عاماً، لكنه هنا أيضاً لم يُوفّق. ومن الأسئلة المهمة أيضاً التي بقيت بلا توضيح، ما يتعلّق بالاجتماع الذي انعقد قبل أيام قليلة من “الطوفان” وسُرّبت مشاركة مسؤولين من “الحرس الثوري الإيراني” فيه، فهل طُلب خلاله من “حماس” أن تعدّل العملية أو تؤجّلها أو أي شيئ من هذا القبيل، أم أنها أصرّت على ما كانت خططت له ولم تفصح عن “ساعة الصفر”؟ ما يبرّر هذه التساؤلات أن عملية ذات مفاعيل اقليمية واستراتيجية بهذا الحجم لا يمكن أن تكتفي إيران بأخذ علم بها، كونها سترتدّ عليها بشكل أو بآخر، ولذلك فهي تريد أن تحدّد مسبقاً كيف ستتعامل معها وتستغلّها في مساومات لمصلحتها ومصلحة نفوذها.

قبل الظهور الأول لزعيم “الحزب” كان الجميع يعرف، أنصاراً وخصوماً، أنه لن يتمكن من اعلان الحرب أو من اعلان اللاحرب، ونصحه كثيرون بأن يبقى ملتزماً الصمت، لكن الرسالة الإيرانية التي حُمِّلَها شكّلت حافزاً مهماً للظهور بغية ايصالها علناً الى الأميركيين. فلا شك أن اعلان الحرب لم يكن وارداً لأن فيه مخاطرة بطولية لكنه يدمّر لبنان ولا ينقذ “حماس” ولا يخفف استهداف أهل غزّة، أما اعلان اللاحرب ففيه خذلان عام وذاتي كان ينبغي تغطيته، أقلّه أمام جمهوره، خصوصاً أنه انطوى على انكشاف كلّي لقصور “وحدة الساحات” التي كان معروفاً مسبقاً أنها مجرد شعار. لذلك كان عليه أن يلفّ ويدور حول الموضوع مستخدماً عبارة “الشفافية والصراحة والغموض”- اشتقاقاً من “الغموض البنّاء” أو “الفوضى الخلّاقة” – لكن هذا المصطلح أوقعه في ديماغوجية لا تتواءم مع سقوط عشرات الضحايا من “الحزب” ومع بلوغ الوضع ذروة المأسوية في غزّة، حتى أن كثيرين اختزلوا مواقفه – ولم يخطئوا – بأنه يقول لـ “حماس” أن تتدبّر أمرها. وإلا فلماذا انتقد بعض قادة الحركة تقصير “محور الممانعة” في دعمها؟ وبالتالي طُرحت تساؤلات أخرى: هل خُدعت “حماس”، وهل دُفعت الى التحرّك بوعود ايرانية لم تُنفّذ، لكن الأهم هل سيتمكّن النظام الإيراني بعد الآن من مواصلة الادّعاء بأن “تحرير فلسطين” أسمى أهدافه العقائدية؟

عدا الانتكاسة – وهذا تعبير ملطّف للواقع – التي تعرّضت لها “وحدة الساحات”، طالما أن كلّ ساحة أصبحت مدعوة للاهتمام بشؤونها، فإن إيران نفسها تلقّت تحذيراً رادعاً من جهة ربما لم تتوقّعها، إذ ان روسيا دقّت على الطاولة لتثني طهران ودمشق عن أي مجازفة مع الولايات المتحدة قد تكون نتيجتها انهاء نظام بشار الأسد، بل ان موسكو طلبت عدم إعادة تشغيل مطاري حلب ودمشق لأن في إصرار إسرائيل على تعطيلهما رسالة واضحة، ولذلك خرجت جبهة الجولان و”الساحة” من احتمالات توسيع الصراع الحالي، وأخرج زعيم “حزب إيران” اللبناني سوريا من معادلة “محور الممانعة” مكتفياً بـ “السواعد” العراقية والحوثية التي لن تقدّم أو تؤخّر شيئاً. وفي غضون ذلك بقيت “الساحة” الإيرانية نفسها، محرِّكة الخيوط والأدوار وصاحبة القيادة والإمرة، خارج الخدمة أيضاً، مكتفية هي الأخرى بوكلائها، ومرتدعة بالتهديدات الأميركية باستهدافها مباشرةً هذه المرّة.

وتبقى طبعاً الساحة اللبنانية، حيث يصول “الحزب” ويجول كما يشاء، لكنه مرتدع أميركياً هو الآخر مهما تظاهر بالعكس، وقد حرص الأميركيون على إيصال تحذيرات مباشرة اليه، تحديداً بالنسبة الى تغطيته دور “حماس” و”الجهاد” على الجبهة. لعل سعي الحكومة اللبنانية الى الحصول – عبر واشنطن – على وقف لإطلاق النار من جانب العدو الإسرائيلي هو من المحاولات التكتيكية التي يجرّبها “الحزب”، فإذا نجحت يتوافر لديه مبرر لوقف المواجهة بحجة أن العدو هو الذي بادر الى التهدئة، وبالتالي يظهر كأنه يرضخ لإرادة “الدولة” وقرارها السياسي، وإذا أخفقت – وهذا مرجّح – يستمر على النمط الحالي الذي أودى بالعديد من عناصره ومن المدنيين عدا الأضرار الجسيمة التي تلحق بالقرى الأمامية وحرائق الأراضي الزراعية. لكن “الحزب” لن يوافق في كل الأحوال على انتشار الجيش اللبناني جنوباً، لأن هذا يشكّل خسارة “استراتيجية” لإيران ولـ “المحور”، فإنفاذ القرار 1701 يغلق الحدود دونه ويمنعه من العبث، وهو لا يريد أن يفقد هذه الورقة التي باتت تختصر مبرّر وجوده وسلاحه غير الشرعي.

النتيجة الوحيدة التي يمكن أن تتوصّل اليها ميليشيات إيران هي أن ترتدّ على الداخل في سوريا ولبنان والعراق واليمن لتعزّز سيطرتها وترفع من درجة الإرهاب الذي تمارسه، لئلا تنتقص انتكاسة “وحدة الساحات” من “هيبتها”، غير أنها ستفتقد بدءاً من الآن كذبة “تحرير فلسطين” من عدّة النصب والاحتيال.

شارك المقال