بصمة 1983: عن الغربة والخذلان… وحرب “أبو عمار” في طرابلس!

إسراء ديب
إسراء ديب

تتزامن الأحداث الخطيرة التي يُواجهها قطاع غزة مع الذكرى الـ 19 لاستشهاد الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات الذي عرفته طرابلس جيّداً بعد لجوئه إليها عام 1983، إذْ لم يكن أحد يتخيّل أن يتجه قائد الثورة الفلسطينية إلى هذه المدينة وسط تغيّرات سياسية خاصّة إقليمية كانت تضرب الداخل اللبناني بصورة مباشرة.

وعلى ظهر زورق، دخل عرفات متنكّراً بزيّ رجل دين جزائريّ (وفق مراجع لبعض الكتّاب) في 20 أيلول عام 1983 إلى طرابلس، في عملية تخفٍ نوعية لم يُدركها السوريون ولا المحتلّ، قائمة على إخفاء معالمه وهويته، بعد تفاصيل درامية رافقت خروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت (عقب اتخاذ اسرائيل قرار اجتياح البلاد والوصول إلى بيروت لإخراج منظمة التحرير الفلسطينية، بعد اغتيال سفيرها في لندن يوم الخميس في 3 حزيران 1982)، فكانت الفيحاء “قبلة” جديدة احتضنت “الختيار” كما تحتضن أيّ شخصية مقاومة أو قضية عربية وعلى رأسها القضية الفلسطينية التي لا يزال أبناء المدينة يُحاولون قدر المستطاع إظهار حجم دعمهم لها ومناصرتهم لعناصر قوّتها، ما يدفع الكثيرين ممن عاصروا الرئيس الفلسطينيّ إلى التحدّث عن هذه الحقبة التي رسمت تاريخ طرابلس محدثة بصمة لا يُمكن أنْ تُنسى.

وبين الصراع السوري والفلسطينيّ محلّياً، عاشت المدينة لحظات عصيبة في خريف عام 1983 أيّ في “عزّ” الحرب اللبنانية، بحيث يستذكر طرابلسيون من كبار السنّ هذه المرحلة التي شهدت عليها المدينة بخسارة اقتصادية وعمرانية فادحة لم تعوّض بالصورة المطلوبة حتّى اليوم، لا سيما بعد معركة طرابلس الكبرى المعروفة بـ “حرب أبو عمار” بين الفصائل الفلسطينية الموالية لسوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية التي كان يترأسها عرفات، الذي عرفه الكثير من أهالي المدينة بصفة أجمع عليها كلّ من صادفته هذه الشخصية التي حملت القضية الفلسطينية لسنوات، وهي صفة “الاختفاء”، إذْ كان يظهر بصورة مفاجئة بين الصحافيين والاعلاميين ثمّ يختفي بصورة غير متوقّعة، الأمر الذي يُضفي نوعاً من الغموض على شخصية لم يحظ إعلاميو الشمال وصحافيوها (على الرّغم من وجود صحافيين مخضرمين في تلك الفترة) بالحصول على مقابلة واحدة كاملة منه بل على تصريحات خاطفة فحسب، إلّا الاعلامي والكاتب طلال شتوي الذي أصرّ بكلّ ما أوتيَ من قوّة وعزم على تنسيق هذا اللقاء الذي حدث بالفعل.

يُمكن القول إنّ كتاب “بعدك على بالي” لشتوي، كان قد سجّل هذه اللحظات التي يراها الكاتب الطرابلسي الذي اقتحم الاعلام البيروتي بمجهود لا يخفى على أحد، أنّها لحظات ليست تاريخية و”محظوظة” فحسب… بل ممتعة وساحرة. ووفق الكتاب فإنّ شتوي كان قصد السياسي واصف فتّال (الذي كلّفه رئيس الحكومة الأسبق الشهيد رشيد كرامي بمتابعة المفاوضات مع أطراف الصراع كمحاولة لإبعاد شبح التدمير عن طرابلس)، واقترح عليه تشكيل وفدٍ طرابلسي قبل مغادرة عرفات المدينة.

وفي إحدى الشقق في شارع عزمي، تمكّن شتوي مع المصوّر “حسن” من الدخول إلى مكتبه، حينها كان أبو عمار مستلقياً على كنبة جلدية سوداء، وانتفض “ليستعيد مظهر القائد” مع العلم أنّه كان منهكاً، لكنّه لم يغضب على الرّغم من دخول صحافيّ عليه يحمل آلة تسجيل مع مصوّر، كما لم يطردهما من المكان، بل قال لهما: “من أيّ جريدة أنتم؟” ليُجيبه شتوي مسرعاً على صوت الأسلحة والبنادق التي رفعت: “الأفكار”، فردّ عليه قائلاً: “انتو بتوع ليبيا”!، ليُجيبه شتوي: “أبداً، نحن بتوع السعودية”، لتهدأ الأسلحة بعد ضحكة الزعيم الفلسطيني.

في الواقع، لم يُصارح الصحافيّ الشاب أبو عمار برغبته في إجراء حديثٍ الوداع معه، بل كلّمه ممازحاً قائلاً: “أنت أمام خيارين، إمّا أن تطلق النار عليّ من هذه البندقية على يمين مكتبك، وإمّا أنْ أفتح آلة التسجيل”، فقال له: “افتح الآلة… ولكن أنا من سيضغط على زر التوقف عن الكلام!”.

لا يُخيّل لأحد أنْ يحصل الكاتب على تصريحات عميقة كانت شكّلت سبقاً صحافياً عزيزاً على قلب طرابلس التي تتمسّك بكلّ قائد مقاوم للاحتلال والظلم ولو كان على حساب واقعها الانمائيّ المتردّي أساساً، نظراً الى ارتباطها بمبدأ القومية العربية لسنوات، فكانت جملة: “إسرائيل هزمتني في بيروت، أمّا في طرابلس فقد هزمني العرب”، من أكثر الجمل تأثيراً، وقد ترتبط بشعوره بالخيبة والخذلان، ذاك الشعور عينه الذي يحسّ به كلّ “غزاوي” اليوم بعد عملية “طوفان الأقصى” التي كشفت المستور وأزاحت الغطاء عمّن كان يدعم هذه القضية وأدار ظهره مباشرة لها في لحظات احتياج هذا الشعب إلى كلّ من يمدّ يدّ العون إليه.

الحرب

إلى ذلك، وفي حرب العام 1983، ومع ما يُقارب الخمسة آلاف مقاتل ضدّ أضعاف حاربوه من الجنود والمنشقّين عن المنظمة، خاض أبو عمار حرباً بأسلحة ثقيلة في مدينة طرابلس كان يُديرها شخصياً من مقرّه، لكن بعد سقوط ضحايا من المدنيين والعسكريين مع سقوط مخيّم نهر البارد ومحاصرة مخيّم البداوي شمالاً، وتفوّق السوريين في هذه الحرب ليبسطوا نفوذهم على أرض المدينة التي شهدت أعنف المعارك والمذابح، وفي وقتٍ كانت تنتشر فيه شائعات تتحدّث عن موت عرفات في المدينة حسب بعض الكتّاب، وفي ظلّ هذا التراجع العسكريّ على أرض المعركة، سعى عرفات إلى الاختباء لحماية نفسه في مناطق طرابلس الداخلية بسرّية كاملة، متنقّلاً من منزل إلى آخر، إذْ كان ينتقل بين شارع عزمي، شارع المئتين، التلّ، الميناء، وكذلك الزاهرية التي يعيش فيها الكثير من اللاجئين الفلسطينيين وكانت من أكثر المناطق التي عرف عرفات بوجوده فيها، وفق الكثير من الطرابلسيين.

ولا تغيب عن أذهان الطرابلسيين “مشهدية” هذه المعركة بعد تحوّل مدينتهم إلى ساحة قتال ومركز لتراكم الجثث والقتلى الملفوفة بأكياس نايلون بعد مجازر لم تقتصر على هذه المعركة فحسب مع ارتفاع لنسبة النزوح، في وقتٍ كان يُحاول فيه الرئيس الشهيد رشيد كرامي التخفيف من حدّة البؤس الذي تسبب به صراع “القوّة” داخلياً على معركة لن تتمكّن من تحرير القدس عبر ضرب السلم المحلّي قطعاً.

وخرج أبو عمار من طرابلس التي حوصر فيها بظروف صعبة في 19 كانون الأوّل من العام عينه وبالطريقة نفسها أيّ عبر البحر الذي بات يجذب كلّ النازحين واللاجئين إلى قوته للفرار من السلطان الجائر، وذلك بوساطة فرنسية – سعودية وجهود مصرية وصينية وكذلك عربية كالكويت التي يُقال انّها وجّهت تهديداً الى سوريا بوقف المساعدات الاقتصادية عنها. خرج على متن سفينة “أوديسيوس إيليتيس”، يُرافقه ضباط و4 آلاف من المقاتلين، مع خمس سفن يونانية تقريباً تُرافقها البحرية الفرنسية، وسط تهديد كبير كان يمسّ حياته مع ملاحقة الطائرات والبوارج الاسرائيلية هذه الرحلة التي انتهت ولم تنته معها عملية بحث الرئيس الفلسطيني عن المشهد النضالي والفدائي.

شارك المقال