أميركا – ايران… جثة مَن تعبر أولاً؟

أنطوني جعجع

كل شيئ يوحي، حتى اشعار آخر على الأقل، بأن ايران لن تدخل الحرب كرمى غزة، وبأن أميركا لن تدخلها كرمى إسرائيل، وجل ما في الأمر أن الطرفين يراهنان ضمن خطوط ممسوكة، على حصانين يتسابقان في ميدان تتوقف على نتائجه مصائر دول وتيارات وايديولوجيات.

وكل شيئ أيضاً يؤكد أن العالمين العربي والاسلامي لن يُقدما على أي اجراء عملي صارم قد يعادي دولة عظمى يعتمدان في معظمها على قوتها العسكرية أي أميركا، أو قد ينصرا علناً منظمة أصولية ايرانية الهوى، يتخوفان في معظمها من تأثيراتها الايديولوجية واستراتيجياتها المتطرفة أي “حماس”.

وما ينطبق على العرب والمسلمين ينطبق على العالمين الغربي والعلماني اللذين يريان في “السابع من تشرين” ما رأياه في “الحادي عشر من أيلول”، وفي حركة “حماس” ما رأياه في تنظيم “القاعدة”، وفي حسن نصر الله ما رأياه في قاسم سليماني، وفي محور الممانعة ما كانا يريانه في الاتحاد السوفياتي السابق من حيث الخطورة والطموحات العسكرية.

والواقع أيضاً أن ايران التي تتخوف من “هزيمة ما” في غزة تبحث عن أي حل يوقف القتال ويمنع سقوط “حماس”، في حين تتخوف أميركا من مراوحة اسرائيلية في القطاع الاستنزافي قد تؤدي الى واحد من أمرين: الذهاب الى تسوية سياسية تكون فيها ايران شريكاً كاملاً، أو الذهاب الى حرب تكون فيها واشنطن شريكاً كاملاً.

وليس من قبيل المصادفة أن تكلف ايران أقوى حلفائها، أي حسن نصر الله مخاطبة الأميركيين المدججين بالسلاح واطلاق معادلة “أوقفوا الحرب على غزة كي نمنع تحريك الساحات”، وأن تضغط الولايات المتحدة على اسرائيل كي تختار بين أمرين أساسيين: اما الموافقة على وقف لاطلاق النار افساحاً في المجال أمام مخارج سياسية تطلق الرهائن من جهة، وتفرمل الضغوط الدولية من جهة ثانية، وتساعد على التقاط الأنفاس من جهة ثالثة، واما التعجيل في حسم الأمر عسكرياً مهما كان الثمن.

وتكشف مصادر ديبلوماسية مطلعة على مسار الحرب في غزة، أن ايران تلقت معلومات غير مشجعة من أنفاق القطاع، وباتت على اقتناع جدي بأن “حماس” يمكن أن تواجه ما واجهته المنظمات الفلسطينية في لبنان في حرب العام ١٩٨٢، أي الخيار بين الموت والرحيل، وأن أميركا من جهتها تلقت معلومات تحذر من احتمال إقحامها في حرب اقليمية واسعة اذا سقط القطاع في قبضة تل أبيب عسكرياً والسلطة الفلسطينية سياسياً.

وترى المصادر نفسها أن ايران ترى في احتمال سقوط غزة مقدمة لاحتمال سقوط مواقع أساسية أخرى ولا سيما في لبنان، وأن أميركا ترى في تعثر اسرائيل مقدمة لتعزيز العنصر الاسلامي الأصولي سواء الموالي منه للنظام الحاكم في طهران أو المتمترس خلف تيارات أخرى وفي مقدمها “الاخوان المسلمين”.

وحده رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو يضرب في كل الاتجاهات من دون أي اعتبار لأي تحالفات أو حساسيات، فهو يرفض أن يكون الزعيم الاسرائيلي الذي سقطت اسرائيل أو أذلت في عهده، والرجل الذي يبحث عن “انجاز تاريخي” قبل خروجه من عالم السياسة بعد انتهاء الحرب.

وليس من باب المصادفة أن يشن نتنياهو حربين متزامنتين، واحدة علنية في غزة وأخرى مكتومة في الضفة، وهما حربان يتوخى أن تؤديا الى اقامة “حزام أمني” في شمال القطاع وآخر في المناطق الفاصلة بين المستوطنات ومناطق السلطة الفلسطينية.

وتكشف مصادر قريبة من الأميركيين، أن نتنياهو يخطط أيضاً، لاقامة “حزام أمني” في لبنان يمتد من الخط الأزرق حتى نهر الأولي، لابعاد خطر “حزب الله” عن مستوطنات الجليل، مشيرة الى أن نصر الله الذي يجهد لسحب سلاحه من دائرة الطعن والتشكيك، تلقى مثل هذه المعلومات من ايران الى جانب تحذيرات من دخول الحرب في شكلها الواسع والشامل ومنح اسرائيل الفرصة التي تنتظرها.

ولا تعني هذه المعلومات أن تنفيذ هذه الخطط متاح أو ممكن، أو أن “محور الممانعة” غير قادر على التصدي لها أو تغيير المعادلات والتوازنات، بل تعني أن التردد الايراني لا يأتي من فراغ بل من حسابات دقيقة لا تدفعه الى مغامرات انفعالية أو انتحارية في أسوأ الأحوال أو غير مضمونة النتائج في أفضل الأحوال.

وليس أدل على التردد الايراني من خطاب حسن نصر الله الذي استنفد كل الوسائل غير العسكرية في الصراع القائم الآن مع الدولة العبرية، مراهناً على المظاهرات والمسيرات في المنطقة والعالم، وعلى مواقف سياسية أو اقتصادية عربية واسلامية، وعلى تململ شعبي وضغط مالي داخل تل أبيب، وعلى ورقة الرهائن، وعلى دعاءات في كل مكان من أجل نصرة غزة ووقف الحرب، الى جانب بعض الاضاءات على ما يملكه من أسلحة نوعية قد يستخدمها في الميدان.

ولا يعني هذا المشهد الايراني المرتبك أن التردد الأميركي في دخول الحرب لا يأتي أيضاً من فراغ، اذ يقوم على اعتبارات عدة، أولها تحاشي التفريط بقوة أميركا العسكرية في الشرق الأوسط، في وقت تنكب على نصرة أوكرانيا في مواجهة روسيا، وحماية اليابان وكوريا الجنوبية في مواجهة كوريا الشمالية، وحماية جزيرة تايوان من أي عملية اجتياح صيني خاطف، وثانيها الحرص على عدم استفزاز العالم العربي وتخريب عمليات التطبيع العربية – الاسرائيلية، وثالثها التخوف من أن تؤدي مجازر غزة الى تعزيز التيارات الأصولية في العالمين العربي والاسلامي، ورابعها خسارة الصوت العربي في الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة، وخامسها التخوف من قيام المحور الايراني بنقل المعركة الى قلب العالم الغربي عبر أعمال عنف وتخريب أو عبر تحريك الجاليات العربية والاسلامية التي تحولت في نظر اليمين المتطرف الى ما يشبه القنابل القابلة للانفجار في أي لحظة… حتى الآن، يكشف مراقبون مقربون من مسار الأحداث في المنطقة، أن الرئيس جو بايدن يشعر بأن الوقت لم يعد في مصلحة المحور الأميركي – الاسرائيلي، معتبراً أن نتنياهو تأخر كثيراً في اطلاق الحملة البرية وحوّل “حرب الدفاع عن النفس”، الى حرب الدفاع عن الحرب نفسها.

ويضيف هؤلاء ان ايران تأخرت بدورها في نجدة حلفائها في غزة، مؤكدين أن أي استلحاق من جهتها قد يعني واحداً من أمرين: اما مواجهة شاملة مع الجيش الأميركي، واما فتح الترسانات النووية في اسرائيل.

وحتى الآن أيضاً، لم يرتكب أي من الطرفين الأميركي والايراني أي خطأ في الحسابات والقراءات، في وقت تقر ايران بأنها تكبدت “نصف هزيمة” في غزة وتقر أميركا بأن اسرائيل حققت “نصف انتصار”، وفي وقت يتفق الطرفان على أن الانتظار يبقى أفضل سبيل لمعرفة جثث مَن سيحمله “نهر الدماء” الذي يسيل من أزقة فلسطين الى آخر زقاق في العالم.

كلمات البحث
شارك المقال