في محبة تركي الحمد

أحمد عدنان
أحمد عدنان

سرت شائعة شريرة مفادها وفاة المفكر السعودي المرموق والرائد د. تركي الحمد، لكنه – رعاه الله وعافاه – نفى الشائعة بنفسه.

وربما لا يعرف كثر في أيامنا هذه أهمية هذا الرجل وتأثيره على جيل بأسره، لذلك في هذه الأسطر بعض من كل ذلك.

في النصف الثاني من التسعينيات صدرت للحمد رواية “أطياف الأزقة المهجورة” بأجزائها الثلاثة: العدامة، الشميسي والكراديب. وكان هذا الحدث زلزالاً ثقافياً وسياسياً واجتماعياً بكل معنى الكلمة، إذ هشمت الرواية سلسلة من التابوهات بالتوازي مع الجودة الأدبية المناسبة، فتضمنت الرواية أطروحات شجاعة من خلال أحداثها وشخصياتها تناولت – لأول مرة في السعودية – مثلث الدين والجنس والسياسة، ولعل أهم ما فيها تسليط الضوء على الواقع الاجتماعي الذي كان مغلفا بالمثالية، وكشف جوانب مخفية من التاريخ السياسي السعودي في شقه الشعبي الذي كان سجين الكتمان، وهو ما استكمله لاحقاً مطلع الألفية برواية “شرق الوادي” من زاوية أخرى، ثم كانت رائعته الرمزية “جروح الذاكرة” حين جسد الوطن في شخصية البطلة “لطيفة”. وفي ذروة الحرب على الإرهاب ومخاطرها أصدر رواية “ريح الجنة” التي كشفت عقول منفذي جريمة 11 سبتمبر 2001.

وعلى الصعيد الفكري لأبي طارق أكثر من مؤلف ربما أهمها: “السياسة بين الحلال والحرام” و”الثقافة العربية في عصر العولمة”.

ساهمت مؤلفات تركي الحمد، بالاضافة إلى مقالاته الأسبوعية الشجاعة في صحيفة “الشرق الأوسط”، في إعادة جيل سعودي كامل إلى الكتاب قراءة وإنتاجاً بعد تواري جيل الرواد ثم تلقى تيار الحداثة ضربات مدمرة من تيار الصحوة الإسلاموية في نهاية الثمانينيات، وطغيان الوعاظ على المشهدين الثقافي والاجتماعي بعد حرب تحرير الكويت. وليس في ذلك مبالغة، فحين يقول ناشر مرموق كالأستاذ محمد سعيد طيب (مؤسس ورئيس شركة تهامة الرائدة في مجالي النشر والإعلان) ان السلسلة التي أصدرها ونشرها تحت عنوان “الكتاب العربي السعودي” لم تحقق نجاحها المأمول بسبب عنوانها – الذي ربطه القارئ بلا قصد بالخطاب الإعلامي الدعائي حينها – مؤشر على أهمية الاختراق الذي حققه (الحمد)، وقبله لا بد من الاعتراف بخصوصيتي د. غازي القصيبي ود. عبدالله الغذامي في التأثير، لكن رواية (الحمد) ومؤلفاته عموماً شجعت السعوديين على كتابة ونشر الرواية بكثرة وبجرأة حتى أن أحمد العرفج كتب في صحيفة المدينة – ملحق الأربعاء أن الرواية أصبحت ديوان العرب لا الشعر، وساهمت مؤلفات (الحمد) ومقالاته – بالإضافة إلى الظرف السياسي اللاحق المتمثل في الحرب على الإرهاب – في تشجيع السعوديين على تناول تجديد الخطاب الديني ونقد خطاب فكر التطرف في مقالاتهم ومؤلفاتهم.

على الصعيد الشخصي، لا أنسى 3 مقالات لأبي طارق، الأولى في صحيفة “الشرق الاوسط” قبيل الدخول الأميركي إلى العراق عنوانها: “وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم”، والثانية في صحيفة “البيان” الإماراتية بعنوان “حديث المحرقة”، أما الثالثة فأظنها كانت من آخر مقالاته في صحيفة “الشرق الأوسط” قبل أقل من عشرين سنة، تقارن بين التعامل الرسمي والإعلامي مع اليوم الوطني السعودي من جهة، وبين خطاب حالة الاتحاد للرئيس الأميركي من جهة أخرى.

طوال مسيرة تركي الحمد، كان هاجسه وهمه تحرير الدين الإسلامي الحنيف من الجمود ومن الغلو الذي أسبغه عليه الإسلامويون، ونقض فكر التطرف والإرهاب من جذوره، وترسيخ مفاهيم وقيم الوطن والمواطنة والتعددية والحرية والتسامح والعيش المشترك والعدالة وتكافؤ الفرص، ولا يقل أهمية عن كل ما سبق، إرساء معايير الجودة والكفاءة في الإدارة العامة، وتحرير الإنسان من الأيديولوجيات لتكون الفكرة في خدمة الإنسان لا الإنسان في خدمة الفكرة، وليكون الإنسان بحد ذاته قيمة خالصة ومضافة. والمثير في هذه المسيرة الثرية والنقية أنها تنطلق من منظور ليبرالي صادق تشكل بعد تحولات ناضجة تحررت من أفكار البعث واليسار، والأكثر إثارة – في السعودية بالذات في ذلك الوقت – أن هذه المسيرة لم تكن على صدام تكتيكي مع الدولة إلا فيما ندر، كما أنها لم تكن على صدام جذري مع الدولة أبداً، وهنا مكمن النهج والنضج: الإصلاح والتطوير والتغيير من داخل الدولة لا من خارجها ولا عليها، وربما كان هذا عادياً بالنسبة الى السعودية اليوم بعد أن أخذت الدولة مواقف عملية جذرية ضد الإسلام السياسي وفكر التطرف، لكن في عقد التسعينيات الميلادية ومطلع الألفية بالذات، لم تكن الظروف السياسية والاجتماعية مريحة، وهذا هو موضوع ريادة تركي الحمد، المساهمة في تعليق الأجراس وفتح الأبواب والنوافذ في ظروف قاسية ومعقدة أعتاها فتاوى التكفير التي وضعت (الحمد) في دائرة الخطر لولا التدخل الحاسم من ولي العهد آنذاك الأمير (الملك) عبدالله بن عبدالعزيز الذي استقبل أبا طارق وأهداه قلمه.

تركي الحمد والملك عبدالله رحمه الله

يتعرض تركي الحمد منذ عقود لحملة عدوانية شرسة من المتطرفين ومن المحافظين، تجتزئ بعض الجمل من مؤلفاته وتغريداته خارج سياقها، أو تشوه شخصه وبعض أفكاره ورؤاه وتحاكم نواياه وتشمت ببعض ما قاساه، ومن خلال معرفة شخصية ومتابعة دؤوبة لنتاجه أستطيع القول بأن حملة التضليل والتشويه ظالمة ومتعسفة، حتى لو تحقق خلاف واختلاف مع بعض أفكاره في بعض المراحل.

ما تعرض ويتعرض له تركي الحمد هو ضريبة دفعها تنويريون كثر، فما تعرضت له “أطياف الأزقة المهجورة” تعرضت له من قبل رواية “أولاد حارتنا” لنجيب محفوظ، اما الحملات التي استهدفته شخصياً وفكرياً فعاصرنا مثيلاتها مع فرج فودة ونصر حامد أبو زيد وغيرهم ماضياً وحاضراً، وكان التشنيع على أحمد لطفي السيد موضوعه ذات زمن أنه “يدعو إلى الديمقراطية والعياذ بالله”، ولعل هذا قدر شريحة واسعة من المثقفين الذين يريدون إيقاظ القلوب والعقول والضمائر، وينشدون الأفضل والأحدث للأمم وللأوطان وأهلها، وفي النهاية صدق الأثر “اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون”.

استطاع تركي الحمد أن يكون تركي الحمد بفضل استقلاليته، كانت أول فكرة سمعتها في بيته بالدمام، ان المثقف يجب أن يكون حرا، وحتى يكون حرا يجب أن يؤمن أسباب استقلاليته، لذلك يمكن الاختلاف مع تركي الحمد وعليه، لكن الاعتراف واجب بأن نزاهته ليست محل خدش أو التباس، وعلى سبيل المثال أشاد أبو طارق بتجربة “الحوار الوطني” التي انطلقت في السعودية عام 2003 ثم انتقدها بأريحية حين تحولت إلى طقس فلكلوري.

تركي الحمد وولي العهد الامير محمد بن سلمان

يلام تركي الحمد على غيابه الاختياري أو الطوعي والمتأثر ربما بظروف شخصية جدية ومحترمة ومفهومة ومعروفة، فآخر مؤلفاته صدر منذ نحو 18 سنة مع أنه كان يتحدث عن مشاريع عميقة كان يعمل عليها آنذاك، ولم ينتظم ككاتب بعد غيابه عن صحيفة “الشرق الأوسط” إلا لفترات وجيزة في غير مكان، وتغريداته في مواقع التواصل الاجتماعي تختزله ولا تعبّر عن فكره العميق والواسع ولا تروي ظمأ قرائه القدامى، وربما كانت تجربة تركي الحمد في مواقع التواصل الاجتماعي مؤشراً على أن هذه المواقع ليست مناسبة دائماً كمنصة فكرية وسياسية، كما أكدت هذه التجربة أن بعض أمراضنا الاجتماعية – من خلال ردود الأفعال على مشاركاته وأخباره – لم تمت بعد.

حين تلقيت شائعة وفاة تركي الحمد شعرت بالوجع مع أن آخر لقاء كان قبل نحو عقد ونصف في بيروت، وكان الزمن اليسير الفاصل بين الشائعة وبين نفيها المبهج كافياً لتذكر الأثر الإيجابي والكبير والمنسي لنتاج هذا الرجل على شخصي وعلى جيل كامل ومجتمع، كان بعض الأثر هذا كأثر الفراشة، وكان بعضه الآخر كالعاصفة والبركان والزلازل، قليله يمكن إعلانه، وكثيره “من المسكوت عنه”.

شارك المقال