بكركي ترفع صوتها: طفح الكيل!

أنطوني جعجع

لماذا يُبقي “حزب الله” يده على الزناد في الجنوب وعين على البلاد في الداخل محاولاً أن يوحي لمن يهمه الأمر بأن الصراع من أجل “تحرير القدس” يكاد يوازي الصراع من أجل السيطرة على لبنان؟

يطرح هذا السؤال نفسه في وقت تحول التمديد أو التحييد لقائد الجيش العماد جوزيف عون ملفاً ساخناً يكاد يتفوق على النار المتدحرجة على الحدود مع اسرائيل، وفي وقت يعاني المجتمع المسيحي بقيادة بكركي مشهداً قاتماً لم يعد يحتمل المزيد من الشواغر والفراغات في مفاصل الدولة والمزيد من التآكل المتدرج في مواقعهم الجوهرية.

وأكثر من ذلك، لا بد من سؤال جوهري آخر، ماذا فعل العماد عون كي يثير كل هذا الضجيج، والى أي مدى يمكن أن يذهب “حزب الله” بعيداً في مراضاة النائب جبران باسيل أو حتى في مراعاة خواطره وخوض معاركه المتنوعة وفي كل الاتجاهات؟

يقول مصدر قريب من باسيل ان الأخير لا يمكن أن يبتلع بقاء عون في قيادة الجيش ساعة واحدة بعد انتهاء ولايته، مهما اشتدت الظروف الاستثنائية التي يمر بها لبنان، وكذلك عمه الرئيس السابق ميشال عون الذي يقف خلف صهره في معركة اطاحة رجلين مارونيين هما جوزيف عون وسليمان فرنجية ومعركة السيطرة على المصرف المركزي عبر ماروني يكون من حصتهما.

ويضيف: ان عون وباسيل، لا يمكن أن يقبلا أولاً بوجود رئيس في بعبدا من طينة أي من هذين الرجلين، وثانياً بأي قائد للجيش لا يكون من الضباط الذين تخرجوا أو تعاطفوا تاريخياً مع “التيار الوطني الحر”.

أما أسباب هذا الرفض، حسب المصدر نفسه، فهي أولاً أن العماد عون متهم من الرابية بالامتناع عن “احباط” ثورة “السابع عشر من تشرين” في مهدها بالقوة، لا بل التعاطف معها على الرغم من أنها كادت، لولا عقم قيادتها، أن تصل الى القصر الرئاسي وتسحب ساكنه بالقوة تماماً كما حدث في “الثالث عشر من تشرين” العام ١٩٩٠، ولأنه ثانياً لا يلقى قبولاً من “حزب الله” الذي يرى فيه “رجل أميركا الأول” في لبنان والرجل المتهم “بالتصدي لرجاله في حوادث الطيونة”، معيداً اياه بالذاكرة الى “مجزرة جسر المطار” التي ارتكبها الجيش بدعم من دمشق في الثالث عشر من أيلول العام ١٩٩٣ على هامش الاحتجاجات التي نظمها محور ايران ضد “اتفاقات أوسلو”.

هذا في الظاهر أما في العمق، فلا يختلف الكثير من المراقبين والعارفين على أن “حزب الله” الذي يتحاشى أي صدام مباشر وعلني مع بكركي والمعارضة المسيحية، يتلطى أو يستفيد من سلبيات باسيل في هذا المجال للوصول الى أمرين متوازيين: الأول امكان تعيين قائد جديد للجيش يرضي باسيل ولا يقلق “المقاومة الاسلامية” التي تخوض صراعاً مصيرياً مع الدولة العبرية، والثاني امكان الحصول في المقابل على تأييد “التيار الوطني الحر” في المعركة الرئاسية سواء لمصلحة سليمان فرنجية أو سواه من المقربين.

ويقول هؤلاء المراقبون والعارفون ان “حزب الله” يعرف أنه لا يستطيع أن يذهب بعيداً في أي حرب مع اسرائيل قبل التأكد من أن الداخل اللبناني آمن ومضمون، وأنه لا يستطيع أن يعود من الحرب سواء جريحاً أو قتيلاً ليجد دولة لا تخافه أو لا تأتمر بأوامره.

لكن القلق الأكبر في أوساط “حزب الله”، يكمن في أمر جوهري واحد، وهو أن ايران التي سلمت أولاً بعدم قدرتها أو رغبتها في دخول أي حرب مع أميركا أو اسرائيل، وثانياً بعدم قدرة “حماس” على الصمود أكثر، طلبت من “حزب الله” التمسك بالورقة اللبنانية وتحاشي أي ثغرة أو مسايرة يمكن أن تضعفها أو تحرقها، مؤكدة أن الذهاب الى أي خريطة طريق جديدة من دون غزة ولبنان ستكون بمثابة الذهاب الى استسلام طوعي أو قسري.

وليس سراً أن الدعوات التي يوجهها حسن نصر الله تباعاً لوقف الحرب في غزة، ترتبط بأمرين أساسيين: أن الحرب هذه المرة لا تشبه “حرب تموز” من حيث الظروف والسلاح والخصوم، وأنها هذه المرة قد لا تنتهي بقرار يشبه القرار ١٧٠١ أو يكمله بل ربما بغالب ومغلوب، أو على الأقل بتغيير جغرافي حدودي يعيد لبنان الى ما قبل العام ٢٠٠٠، خصوصاً بعدما تمظهرت قرارات في واشنطن وتل أبيب تخطط لجعل “حرب غزة” آخر حروب المنطقة وطليعة الحلول السلمية.

وانطلاقاً من هذه الأجواء، يقول مصدر قريب من الضاحية الجنوبية: ان نصر الله، ومن خلال طموحات البعض وعداواتهم وحساباتهم، يجد نفسه مباشرة أو مواربة في مواجهة البطريرك بشارة الراعي الذي رفع صوته في الأمس ضد من وصفهم بـ “المعطلين”، محاولاً وقف الانقضاض على المواقع المارونية عند حدود قائد الجيش، وهو أمر لا يستطيع المضي فيه خشية الوقوع في توترات داخلية تؤدي ربما الى حروب أهلية أو طائفية.

ويضيف: ان “حزب الله” الذي يجد نفسه الآن أمام جبهتين داخلية وخارجية، لا بد من أن ينطلق في حملة استشارات داخل البيت ومع الرابية وبنشعي وعين التينة، ليحدد الخطوة التالية التي يمكن أن تفصل بين باسيل والراعي، أو بين باسيل والعماد عون أو الاحتكام الى اجراءات دستورية قد يلجأ اليها الرئيس نجيب ميقاتي، لا سيما بعد اللهجة القاسية التي اتبعها الراعي في عظته الأخيرة وحملت في طياتها ما يشبه “طوفان بكركي”.

ويذهب المصدر بعيداً الى حد القول: ان على نصر الله الاختيار بين دعم باسيل المحاصر أميركياً وعربياً وسنياً وحتى مسيحياً، ومراعاة الكنيسة المارونية القادرة على تمرير أو إسقاط الكثير من الحلول التي يمكن أن تعني لبنان طوعاً أو قسراً، ليختم أن “حزب الله” يعرف أن أي حرب يخوضها عبر الجنوب ستكون حرباً مع الأسطول الأميركي وأن حربه مع قائد الجيش ستكون حرباً مع البيت الأبيض، متسائلاً: ألا يدرك نصر الله أن باسيل وعمه الرئيس عون لا يملكان ما قد يخسرانه في أي مواجهة مع الأميركيين، على عكس ايران التي تعرف أن كل أوراقها القوية هي على الطاولة الآن على بعد خطوة من حريق غزة؟

وسط هذا المشهد المتشابك، يكشف مصدر ديبلوماسي قريب من الأميركيين، أن باسيل يعتبر نفسه في معركة مع واشنطن التي فرضت عليه عقوبات قاسية وقطعت عليه طريق الرئاسة، في حين يعتبر نصر الله نفسه في معركة مع الجميع وأن “طوفان الأقصى” أسقط مبررات السلاح في شقها اللبناني وكرّسه قضية مركزية في الاستراتيجية الايرانية، وحوّله من الزعيم الأكثر شعبية في لبنان الى الزعيم الأكثر اثارة للقلق.

ويختم سائلاً: أي قائد للجيش يريده الثنائي نصر الله – باسيل؟ هل يريدان قائداً معادياً أو على الأقل متنافراً مع واشنطن، أو هل يريدان جيشاً لا يجد في بندقيته رصاصة غير أميركية أو محفظة فارغة الا من لا “مكارم” أميركية أو قطرية؟

انه المأزق الذي عكر المياه الراكدة مهدداً بجر الجميع الى الزوايا الصعبة، والمأزق الذي يفرض توازن رعب ليس بين “حزب الله” واسرائيل وحسب، بل أيضاً بين بكركي وولاية الفقيه ولو من غير جبهات وسلاح.

شارك المقال