هل من صفقة على حساب لبنان؟

جورج حايك
جورج حايك

تتخلل الحروب الكبيرة أحياناً حروب صغيرة تتضمن رسائل سياسية للحلفاء والخصوم معاً، وهذا ما ينطبق على “حزب الله” منذ 7 تشرين الأول مع بدء عملية “طوفان الأقصى” التي قامت بها حركة “حماس” ضد اسرائيل، إذ يقوم “الحزب” بتبادل القصف والعمليات الحربية مع الجيش الاسرائيلي على الحدود الجنوبية ملتزماً بما يسمّى “قواعد الإشتباك”، وحتماً هذه العمليات المحدودة عسكرياً تعتبر رسالة بحد ذاتها لعواصم القرار، فما الذي يجري ديبلوماسياً إلى جانب التعصيد العسكري في غزة ولبنان؟

عاش اللبنانيون لحظة مرعبة بعد عملية “طوفان الأقصى”، منتظرين من “حزب الله” أحد أقوى الأذرع العسكرية لإيران أن يقوم برد فعل قوي تبعاً لتهديدات الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله الذي وعد جماهير الممانعة بإزالة إسرائيل والصلاة في القدس! لكن سرعان ما خابت الآمال وطال صمت نصر الله قبل أن يطل على الشرق والغرب، ويعلن أنه لم يكن يعلم بعملية “حماس” في موقف ينسجم مع مرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية علي خامنئي، ووضع استراتيجية المعركة مع اسرائيل في الربح بالنقاط بدلاً من الضربة القاضية.

ولا شك في أن القاصي والداني فهم الرسالة، فالربح بالنقاط يعني لا معارك عسكرية قاسية ولا تصعيد من دون حدود، ولا توجيه ضربات في العمقين اللبناني والاسرائيلي، وبالتالي يتخلل الربح بالنقاط الكثير من السياسة والديبلوماسية والرغبة في صفقات وتسويات، وهذا ليس قرار نصر الله وحده إنما قرار مرجعيته الايرانية التي حرصت الادارة الأميركية على تبرئتها منذ البداية من دم الاسرائيليين الذين سقطوا في عملية “طوفان الأقصى”، وبذلك أبعدت الولايات المتحدة كأس المواجهة المرة عن ايران التي تأتي المحافظة على نظامها في الدرجة الأولى، ثم سلامة برنامجها النووي في الدرجة الثانية، والحرص على إبنها المدلل “حزب الله” في الدرجة الثالثة. أما الادارة الأميركية فارتاحت من توسّع العمليات العسكرية نحو لبنان، بحيث التزمت إيران و”الحزب” بالخطوط المرسومة في الجنوب، وجنّبت اسرائيل فتح جبهة كبيرة في شمالها لتركّز على ضرب “حماس” وتصفيتها.

من المؤكّد أن أنصار محور الممانعة، يطرحون علامات استفهام حول ترك “حماس” وحيدة في المعركة، وحتى مسؤولو الحركة أطلقوا تصريحات فيها الكثير من العتب على إيران و”الحزب”، لكن ما كُتِبَ قد كُتِبَ، وفي موازاة حرب الابادة التي تقودها اسرائيل ضد غزة انتقاماً من عملية “حماس”، تجري مفاوضات بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران في جنيف، وقد لعبت قطر دوراً في التمهيد لهذه المفاوضات التي تتمحور حول الحرب الدائرة بين اسرائيل و”حماس”، وما يسرّ إيران في هذا الأمر هو تعاطي الادارة الأميركية معها كوصي على الدول التي تسيطر عليها مثل لبنان وسوريا والعراق واليمن مقابل أن تحظى بمكافآت تريح نظامها داخلياً من الجانب الاقتصادي ويشمل ذلك التعهّد لها بالمليارات وبرفع عقوبات مقابل عدم تدخّلها. هذا الى جانب الاصطفاف الأوروبي والعربي مع الولايات المتحدة في عملية ترغيب إيران ليس بالمكافآت المالية الضرورية لتنفيذ مشروع النهضة الاقتصادية والقومية في إيران وحسب، وإنما أيضاً في إطار فك العزلة عنها والمقاطعة لها وتهيئة الأرضية لدخولها طرفاً أساسياً في الترتيبات الأمنية المستقبلية لمنطقة الخليج والشرق الأوسط.

طبعاً، هذه البراغماتية الايرانية لم تكن حاضرة في حسابات “حماس” عندما قامت بعملياتها غير المسبوقة في 7 تشرين الأول الفائت. فهي أرادت حرباً اقليمية تجرّ اليها إيران، وليس الدول العربية فقط. راهنت “حماس” على تكامل “ساحات المقاومة”، فافترضت أن “حزب الله” لن يبقى خارج المعادلة، وأن إيران لن تتخلّى عن الحركة وتتركها وحدها في مواجهة عسكرية ضانية مع إسرائيل.

المفاجأة الايرانية أتت بتنصّل طهران و”حزب الله” من أية معرفة سابقة بعمليات “حماس”، ثم أبلغ الرئيس الايراني ابراهيم رئيسي رئيس المكتب السياسي في “حماس” اسماعيل هنية، أن طهران لن تدخل الحرب نيابة عن “حماس”، وأن عليها إسكات الأصوات التي تدعو إيران و”حزب الله” الى الانضمام الى المعركة ضد إسرائيل بكامل قوتها.

وضعت إيران أمام نصب عينيها أهدافاً عدة من عدم الانخراط في الحرب: أولاً، عدم المغامرة ببرنامجها النووي وخصوصاً أنه في مراحله الأخيرة. ثانياً، خافت في حال وُجّهت إليها ضربة أميركية اسرائيلية من تعرية مزاعمها بالتفوّق عسكرياً، فقررت ألاّ تغامر. ثالثاً، جنّبت “حزب الله” خسارة حتميّة كقيمة الردع حماية لإيران أولاً، فطلبت منه عدم عبور الخطوط الحمر والاحتفاظ بالوضع الراهن. ذلك أن “حزب الله” ورقة ثمينة لا تريد طهران التفريط بها، فهو وحده ضمن “الأصول الثابتة” لإيران قيمته لديها دائمة وليست مرحلية كما قيمة الحوثيين عندها. رابعاً، أغرتها المليارات ورفع العقوبات لتنفيذ برنامج “النهضة” وتحسين وضعها اقتصادياً.

في موازاة ذلك، أبقت إيران بعض الجبهات مشتعلة ولو على نحو محدود وهذا ما يحصل في جنوب لبنان، إضافة إلى بعض عمليات للحوثيين والميليشيات الشيعية في العراق وسوريا ضد القواعد الأميركية، والهدف إفهام الادارة الأميركية بأن إيران ضرورة لا يمكن التخلي عنها لعدم توسّع الحرب، وهي تتقن اللعب مع الأميركيين وانتزاع المكافآت منهم على طاولة المفاوضات منها إفراج أميركا عن 10 مليارات دولار من أرصدة إيران في العراق، لكن الهمّ الأساس للنظام الايراني الآن هو الملف الفلسطيني الذي تريد إيران أن تكون جزءاً من قراره في أي تسوية مقبلة. وهذا ما سيبقي جبهة الحدود الجنوبية بين “حزب الله” واسرائيل مفتوحة من دون أن تتطوّر إلى حرب كبيرة.

ويرى رئيس جهاز العلاقات الخارجية في “القوات اللبنانية” الوزير السابق ريشار قيومجيان أن الحرب المحدودة لـ”حزب الله” على الحدود الهدف منها توجيه عدة رسائل، الأولى لـ”حماس” أو لرفع العتب بدلاً من وحدة الساحات، مدعياً أنه يلهي الجيش الاسرائيلي عن غزة، علماً أن غزة للأسف دمّرت بل تمت إبادة الفلسطينيين هناك، ولا نعرف ماذا أفاد “حزب الله” الفلسطينيين في معاركه الجنوبية التي انعكست سلباً على لبنان من دون أن تفيد غزة بشيئ؟الرسالة الثانية إلى اللبنانيين، زاعماً أنه يدافع عنهم، فيما هناك جيش لبناني و”يونيفيل” وقرار 1701 يجب تطبيقه وهو كفيل بحماية لبنان. الرسالة الثالثة إلى الأميركيين بأنه موجود وفاعل، صانعاً لحرب تستدرج العروض منهم ليفاوضوه.

ويشير قيومجيان إلى أن “المفاوضات بين الأميركيين والإيرانيين هدفها تجنّب توسّع الحرب أبعد من غزة، وهناك مساعٍ للتوصّل إلى وقف إطلاق النار، وربما هناك من يعتبر أن المسألة سهلة، إلا أن الكلام حتى عن وقف اطلاق النار لا يزال مبكراً، ولا يبدو أن الإدارة الأميركية تمون على اسرائيل في كل شيئ، لأن حكومة بنيامين نتنياهو تعتبر المعركة وجودية”. ويلفت إلى أن “ملفات المنطقة ليست مطروحة حتى الآن في المفاوضات الأميركية – الإيرانية، فغزة وصراع حماس واسرائيل هما الشغل الشاغل الآن، إضافة إلى إبعاد كأس الحرب عن لبنان، وإذا تمّ حصر العملية في غزة، فلا أظن أن الولايات المتحدة وايران قادرتان على الاتفاق حول كل الملفات بمعزل عن الآخرين، ولا سيما السعودية ودول المنطقة”.

هناك من يتخوّف من صفقة على حساب لبنان، بحيث يسلّم إلى ايران وذراعها العسكرية “حزب الله” في خضم الصفقات والتسويات التي قد تشهدها المنطقة، كما حصل عندما سلّمت الولايات المتحدة إدارة لبنان لنظام حافظ الأسد في التسعينيات من القرن الماضي. لكن قيومجيان يقول: “لبنان ليس جائزة ترضية لأحد، طالما هناك قوى حيّة تقول لا، علماً أن الكلام عن الصفقات لا يزال في نطاق التكهنات. ولا بد من التأكيد أن الوضع اللبناني في سنة 2023 هو غير الوضع في التسعينيات”.

لكن أولى العلامات السلبية هو توقف المجتمع الدولي عن المطالبة بالقرار 1995، وعدم تنفيذ القرار 1701، إلا أن قيومجيان يوضح أن “حزب الله لم يكن يعترف بأنه لا يطبق القرار 1701، إلا أنه اليوم يخرقه علناً وفوق الأرض، فهل سيبقى القرار تحت البند السادس أو سيتم وضعه تحت الفصل السابع؟ وأي ترتيبات تنتظر الجنوب بعد انتهاء المعارك في غزة؟ وهل ستكون هناك جائرة ترضية؟ أرى أن من المبكر الكلام عن نتائج المفاوضات الأميركية – الايرانية، لكن ما يمكن تأكيده أننا لن نقبل كقوات لبنانية وقوى حيّة أن يكون ذلك على حساب لبنان”.

ويُطمئن قيومجيان إلى أن “من يظن أن الحزب سيخرج منتصراً وسيرتد إلى الداخل ليفرض إرادته السياسية على اللبنانيين مخطئ، ونحن لا نراهن على أي شيئ اقليمي لضرب الحزب أو ما شابه، إنما نريد دولة ترعى الجميع ويكون القرار الاستراتيجي في يدها وحدها، بصرف النظر عما يحصل اقليمياً”.

ويختم بسؤال: “من يخوّل أي دولة عظمى أن تعطي لبنان جائزة ترضية؟ لا الدول ولا اللبنانيون سيقبلون بذلك، وسنقاوم بشراسة أي مشروع يكون على حساب لبنان الدولة والسيادة”.

شارك المقال