القريب والبعيد في مشكلة لبنان

محمد علي فرحات

يشكل نجيب ميقاتي حكومة جديدة أم يعجز عن ذلك؟ الأرجح أنه سيعجز لأن رئيس الجمهورية سيترصده كما ترصد لسعد الحريري. وليس ميقاتي الرئيس سوى استمرار لسياسات الحريري الابن. هكذا كان دأبه أثناء رئاستيه السابقتين للحكومة فلم يكن يحيد أنملة عن طريق الشيخ سعد، بل كان أكثر صلابة في مواقفه لأن البديل لا يستطيع تغيير سياسات الأصيل. هذا يعرفه ميشال عون وصهره كما يعرفه أصدقاء الحريري وفي مقدمهم رئيس البرلمان نبيه بري.

ألعاب لبنانية في الوقت الضائع وعلى وقع رقصة المواطن اللبناني على حافة الجوع. والمشكلة ليست تحديداً في خلافات الزعماء اللبنانيين، إنما هناك خلف الحدود لدى الجارين الملتبسين، اسرائيل وسورية، وهي أيضاً في أروقة وزارات الخارجية في أوروبا والولايات المتحدة، وإلى حدّ ما في روسيا.

“حزب الله” هو بيت القصيد،على رغم تخفية في مواقف سياسية لبنانية معتدلة، مثل تأييده المعلن لسعد الحريري ومن بعده لنجيب ميقاتي. هو بيت القصيد الذي يظن لبنانيون كثر مرتفعو الأصوات أنهم حين يرجمونه يومياً بالحجارة يستطيعون القضاء عليه معنوياً بلا حرب.

لكن المشكلة أبعد من ذلك وأعمق في الداخل اللبناني وفي الخارج القريب والبعيد.

داخل لبنان تحكم (أو تعارض) مجموعة من السياسيين معظمها طالع من الحرب الأهلية، فحين تصافح واحداً منهم تتعجل لتغسل يديك من دم الأبرياء. هذه المجموعة برهنت عن خفة وضيق أفق وأطماع بلا حدود، كأن كل واحد منهم صحراء لا يشبعها المطر. لقد استهلكوا المال العام وضموا إليه أموال المودعين في لعبة مكشوفة مع حاكم مصرف لبنان الذي هو صنيعتهم. وها أن أموالهم المهربة، وأمواله أيضاً، تحت رقابة سلطات أوروبا وأميركا تنتظر الأمر بإعلان الفضيحة حين تتطلب مصالح الكبار هذا الإعلان.

ووصل الأمر بهؤلاء السياسيين إلى اهتزاز الثقة بالنفس وإلى شكوك متبادلة في ما بينهم. فكل منهم يحلم في نومه أن السياسي الآخر يتآمر عليه وينصب له فخاً هنا أو هناك: انظر إلى مواقفهم الأقرب إلى الصمت تجاه كارثة تفجيرات مرفأ بيروت. يحاول كل منهم النجاة بنفسه من تهمة الفعل أو السكوت عن الفعل أو التقصير ليلصقها بالآخر. ولا ثقة لهم بقاض، حتى إنهم دفعوا الذي أعطي ملف القضية أولاً إلى اعفاء نفسه من المهمة، وها أن معظمهم يدفع القاضي الحالي الى اليأس، حتى إذا أصر على متابعة مهمته نسبوه إلى التحزب، وشككوا في أهليته الأخلاقية لمتابعة ملف حساس مثل تفجير المرفأ وحوالي ربع العاصمة اللبنانية. والآن يكاد ملف التفجير يتمزق بين شد إلى قصر العدل وجذب إلى مجلس النواب. أين فصل السلطات المعلن في الدستور؟ لا أحد يجيب، وقد بلغ الخوف ببعض النواب انهم تمردوا على رؤساء كتلهم ليسلموا الملف إلى البرلمان رغم التباس الأمر في أكثر من رأي لخبراء في القانون.

وفي الخارج القريب تبدو المشكلة في نظر إسرائيل فرصة لإضعاف “حزب الله” من خلال إغراقه في الأزمة اللبنانية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، بما يؤثر سلباً في قواعده الشعبية ويضعف من أثر شعاراته في هذه القواعد، حين ترى وطنها يتهاوى وكل طائفة تلتفّ على نفسها وتهتم بإنقاذ جماعتها، من باب أن القريب أولى من البعيد. وهكذا يجري اتهام “حزب الله” بأنه حمّل لبنان، خصوصاً سكان الجنوب، ما لا طاقة لهم به، وأنه لم ينتبه إلى أن الوطن الصغير لا يمكن أن يحتمل مهام كبيرة يتنكبها “حزب الله” على مستوى المنطقة، في سورية والعراق وحتى اليمن. بل إن بعض الجنوبيين بدأ يلوم “حزب الله” في الخفاء بأنه فوت عليهم وعلى سائر اللبنانيين فرصة وضع مسلحيه وسلاحهم تحت إمرة الجيش وفي الوقت المناسب، قبل أن يتفاقم الأمر وتصبح المقاومة مشكلة بعدما كان هناك إجماع لبناني أو شبه إجماع على أنها الحل، بهدف التحرير لا بهدف لعب دور إقليمي لا يتحمله لبنان وطناً وشعباً.

أما سورية، القريبة هي أيضاً، فلا تزال راضية عن وجود “حزب الله” العسكري في أراضيها، لكنها بين وقت وآخر تذكره بأن الأمرة للجيش السوري، وأن تحركاته مرهونة بالمصلحة السورية حصراً وليس بمصلحة أي جهة آخرى وإن كانت حليفتها ايران. وتعرف السلطة في دمشق أنها حين تجهد في استعادة سورية الى كنف الدولة الواحدة، مضطرة الى رسم مسافة تفصلها عن “حزب الله” الذي تعجز دمشق عن تسويقه لشعبها. إن “الحزب” الذي قدم للسلطة في دمشق خدمات حربية كثيرة سرعان ما سيصبح عبئاً عليها لأن الأولوية لها وليست له في أي حال. من هنا تريد دمشق أن يكون “حزب الله” حليفاً أساسياً لها في لبنان يحفظ مصالحها لا أكثر ولا أقل.

وفي الخارج البعيد، هناك اهتمام قديم متجدد بلبنان نراه واضحاً في أوروبا وفي الولايات المتحدة. ويرتكز هذا الاهتمام اليوم حول خطر انهيار المجتمع اللبناني اقتصادياً واجتماعياً وامنياً، بعدما انهار سياسياً نتيجة الاستقطابات الحادة في المنطقة العربية المحيطة وخفة وتبعية معظم السياسيين اللبنانيين.

وبطبيعة الحال، يركز الأوروبيون والأميركيون، ومعهم روسيا، على “حزب الله” من دون أن يهملوا مسؤولية الفساد لدى السياسيين أو معظمهم. وبهذا يصبح لبنان مختبراً أخيراً لانهيار المشرق العربي بدءاً بالعراق ومروراً بسورية، وهو انهيار مفتوح لم تتحدد آفاقه بعد في انتظار قرارات مراكز القوى المحيطة، وفي طليعتها تركية وإسرائيل ومصر ودول مجلس التعاون الخليجي وإيران.

شارك المقال