بأي حال عدت يا استقلال؟

عاصم عبد الرحمن

ها هو لبنان يطوي عام استقلاله الثمانين عن الاحتلال الفرنسي الذي استمر قرابة الـ 23 عاماً بدأ مع إعلان دولة لبنان الكبير في 1 أيلول 1920 وانتهى في 22 تشرين الثاني 1943، مع الاشارة إلى أن جلاء آخر جندي فرنسي عن لبنان تم في 31 كانون الأول 1946، ويقلب معه صفحات أخرى من كتاب محاولات بناء دولة القانون والمؤسسات قوامها المواطنة والحكم الرشيد، إلا أن الاستعمار رحل عن البلدان التي احتلها إما تحت ضغوط المقاومة والشعوب التي لا تنفك تواجه المحتل بكل ما أوتيت من قوة، وإما بفعل المتغيرات السياسية والتحولات السلطوية التي أرستها نتائج الحرب العالمية الثانية فأرغمته على ترك بلدان الاحتلال لمواجهة أحوال بلاده.

نال لبنان استقلاله نتيجة الضغوط الشعبية التي مارسها اللبنانيون على أثر اعتقال أركان الدولة كان أبرزهم الأبوان الروحيان للميثاق الوطني بشارة الخوري ورياض الصلح، في الوقت الذي وقعت فيه فرنسا تحت ضغط الانقسام بين حكومة فيشي برئاسة المارشال فيليب بيتان الذي تعاون مع النازيين على أثر هزيمة فرنسا أمام ألمانيا النازية، وحكومة فرنسا الحرة بقيادة الجنرال شارل ديغول في المنفى الموالية لدول الحلفاء في الحرب العالمية الثانية.

لاستقلال لبنان حكاية وطنية يتداولها اللبنانيون في كل عام ويُحتفى بها عبر الأفلام الوثائقية والأغاني والأناشيد والمسلسلات والمسرحيات وغيرها من الأعمال الفنية عدا عن العرض العسكري الذي يقدمه الجيش اللبناني، بالاضافة إلى المشهدية الرسمية التي يستعرضها أركان السلطة عبر تقبل التهاني ووضع الأكاليل وإصدار بيانات الاستذكار والاعتزاز بما كتبه الأجداد.

استقل لبنان عن الاحتلال الفرنسي ليسقط تحت احتلال نفسه عبر عائلات سياسية وطبقات سلطوية توارثت الحكم تحت شعار حقوق الطائفة وحماية الكيان والحق بكراسي الآباء.

ثمانون عاماً من الاستقلال عاصرت الكثير من الحروب العسكرية والتقاتل الطائفي والتناحر السياسي والصراع على العروش أبرزها ثورة كميل شمعون 1958، والحرب الأهلية 1975 التي استمرت قرابة ما يزيد على 15 عاماً وما تخللها من معارك صغيرة كمجزرة صبرا وشاتيلا 1982 وحرب الأخوة 1988 وحرب الإلغاء 1989 وأحداث 7 أيار 2008، وشيئ من الازدهار أو ما سمي بـ “العصر الذهبي” عام 1974 ومرحلة “رفيق الحريري الاعمارية” التي تراوحت بين عامَيْ 1992 و2004.

عجز اللبنانيون عن ممارسة الديموقراطية بأبهى حللها عندما فشلوا في إنجاح تجربة الكتلة الوطنية والكتلة الدستورية. رموا بأنفسهم إلى تهلكة الوصاية السورية التي عاثت فساداً وإفساداً بحق اللبنانيين شعباً وقادة ونظاماً. مرة أخرى أسقط اللبنانيون تجربة ديموقراطية فريدة ولدت في 14 آذار 2005 كادت أن تنقل لبنان إلى مرحلة سيادية حقيقية وإنجاز استقلال نوعي بأيدٍ وطنية عابرة للطوائف والمناطق، إلا أن هاجس السلطة احتل نفوس مَنْ اعتادوا ارتياد جنة الحكم فعادوا أدراجهم إلى ربوع التحالف مع رموز الوصاية السورية مفسحين في المجال أمام احتلال جديد تفجرت ينابيعه مع جلاء الجيش السوري عن لبنان عام 2005، ليعلن على الأثر الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصر الله اختطاف الدولة اللبنانية ومصادرة قرارها وتهشيم سيادتها بقوة سلاح إيراني غير شرعي وجه بندقيته باتجاه صدر بيروت الحرة وقلب سوريا الثائرة في وجه السلطان الأكثر جوراً في تاريخها.

انتفض اللبنانيون في 17 تشرين الأول 2019 ضد ما أسموه الحكم الفاسد الذي أينعت رؤوسه فوجب قطافها، ليهرع قادة تلك الانتفاضة إلى استثمار ثقة مَنْ آمن بالتغيير المنشود وقطف بضعة مقاعد نيابية، فهاجس الحكم والسلطة الذي احتل نفوس الطبقة السياسية هو نفسه سكن أرواحهم ولم يبدده سوى الجلوس إلى جانبهم.

يستذكر اللبنانيون استقلالهم الثمانين ونيران العدو الصهيوني تلتهم أجساد أطفال غزة وشيوخها ووحشية جيشه الغاصب تنهش روح حرائرها ولكنهم مستقلون بالكرامة والحق والدفاع عن الأرض والتاريخ.

في 22 تشرين الثاني 2023 يقع اللبنانيون في حيرة من أمرهم أيضيئون شمعة الاستقلال أم يطفئونها؟ يتساءلون إن كانوا مستقلين بوطنهم أم عنه؟ ونحن نسأل بأي حال تعود يا عيد الاستقلال؟

جرائم الاغتيالات السياسية التي عرفها لبنان بدءاً من كمال جنبلاط وحسن خالد ومَنْ قبلهما وليس انتهاءً برينيه معوض ورفيق الحريري ومَنْ بعدهما فاللائحة تطول وبقيت مستقلة عن العدالة والعقاب.

شغور رئاسي يتكرر للمرة الثالثة ويتمدد لأننا اعتدنا الوصاية ولم نفقه الاستقلال السياسي.

إسقاط المؤسسات الدستورية لصناعة القرار الوطني كالقصر الجمهوري والمجلس النيابي والسراي الحكومي لصالح بضعة مقرات حزبية كحارة حريك والبياضة وعين التينة وغيرها لأننا نخشى الاستقلال.

حجيج سياسي في السفارات وضجيج استقلالي في الاعلام فنحن قوم لم نؤمن باستقلالنا بعد.

انهيار مالي تحكمه سوق سوداء برعاية سلطوية وحزبية لأن الحرية الاقتصادية تطيح عروش الأحزاب وتغنينا عن فتات مالهم السياسي.

استقواء أطراف لبنانية ضد بعضها بعضاً بقوة قوىً خارجية تحت غطاء المصلحة الوطنية العليا لأن استقلالية العمل السياسي والحزبي تطفئ شعلة كياناتهم البالية.

ترسيم حدود بحرية ببنود سرية وصفقات شخصية ذلك هو استقلال السلطة الناجز عن الشعب والوطن.

تلاعب بالنظام السياسي طبقاً لمصالح فئوية لئلا تسقط الدويلة المحتلة في الطريق نحو بناء الدولة المستقلة.

إفراغ المؤسسات وتعطيل القانون وتغييب الحلول لتحقيق مكاسب سلطوية فاستقلالهم يتحقق بسقوط الشعب تحت ركام حكام الطوائف وتجارها.

فقر وجوع وقهر وظلم وارتباك حكومي ودجل سياسي وتسلح حزبي وكانتونات طائفية وخطابات مذهبية وجدران مناطقية، فيما مظاهر استقلال البلاد تتلاشى تحت أقدام زعماء فاقوا قوى الاستعمار إذلالاً وتحطيماً للعباد، فبأي حال تعود يا استقلال؟

شارك المقال