غزّة ما بعد الحرب… ولبنان ما بعد حرب غزّة

عبدالوهاب بدرخان

لن تتمكّن إسرائيل من القضاء على حركة “حماس”، لا بالقوّة العسكرية ولا بإعادة احتلال قطاع غزّة، وبالتأكيد ليس بعد كل القتل والتدمير الذي ارتكبته. الحرب التي لم تنتهِ بعد لا يمكن أن تستمر الى ما لا نهاية، ولم يعد أحد في العالم بعَرَبه وغربه يجهل أن سببها الأول والأخير هو الاحتلال، لكن هل أصبح أكثر اقتناعاً بوجوب إيجاد حل حقيقي للقضية الفلسطينية، وهل أصبح أكثر استعداداً وجدية للبحث في هذا الحلّ؟ هناك الكثير من الأفكار والاقتراحات التي درستها المفاوضات السابقة ولم تقرّها، أو تتضمنها القرارات الدولية ولم تنفّذ، لسبب واحد هو أن التواطؤ الثابت بين الولايات المتحدة وإسرائيل استهدف دائماً إدامة الاحتلال لا إزالته.

الغزّيون الذين فقدوا ذويهم وبيوتهم وعانوا ويعانون كل صنوف الوحشية والإجرام على أيدي هذا العدو، الذي غدا عدو البشرية، مستعدّون لأن يعيشوا تحت الخيام وينتظروا إنصافهم، وليسوا مستعدّين في كل الأحوال لأن يتركوا أرضهم كي يظفر بها هذا العدو. باتوا يعرفون أن ما بعد الحرب لن يكون أقل قسوة، وأن الدول التي دعمت إسرائيل لن تتخلّى عنها لأنها تمثّلها كاستعمار متواصل، وقد وقفت الى جانبها عندما اغتصبت أرض الفلسطينيين وصادرت حريتهم وحقوقهم وأرادت طمس انسانيتهم. بل ان هذه الدول تخلّت عما تدّعيه من قيم ومبادئ عندما نافقت العالم وخدعته إذ حرّمت احترام حقوق الانسان والقانون الدولي عندما يتعلّق الأمر بالشعب الفلسطيني.

كما كانت الحرب سيكون ما بعدها أيضاً امتحاناً لما يسمّى المجتمع الدولي. فإسرائيل كما الولايات المتحدة والدول الأوروبية والعديد من الدول العربية لا تريد أن تكون “حماس” ولا أي من الفصائل الأخرى في إدارة القطاع، سواء هُزمت عسكرياً أو بقيت كفكرة أو شريحة اجتماعية. حتى أن كل هذه الدول، التي سيقع على عاتقها تمويل معيشة أهل غزّة وإعادة اعمار القطاع، منقسمة الآن حول امكان التعامل مع السلطة الفلسطينية والاعتماد عليها في إدارة شؤون القطاع، وإلا فإنها يجب أن تتغيّر أو يتمّ تغييرها. ليس لدى هذه الدول تصوّر موحّد لـ “ما بعد الحرب” ولا خصوصاً لإنهاء الاحتلال. وإذا كان بعضٌ منها لا يمانع وجود السلطة في الضفّة فإن ما يُستخلص من كل النقاش الدائر أن هذه الدول تبحث لغزّة عن ادارة غير مرتبطة بمرجعية السلطة الفلسطينية، لكن هذا ما فعلته “حماس” التي تجاوزت عملياً الاعتراف بسلطة رام الله بذريعة أنها لا تتبع “خط المقاومة”.

في غياب عملية سياسية متكاملة سيبقى النهج التعجيزي لسلطة رام الله وسينعكس التعجيز أيضاً على “إدارة/ سلطة” غزّة، ما لم تتبلور إرادة دولية ذات توجّه واضح الى إزالة الاحتلال الإسرائيلي وتفعيل “حلّ الدولتين”. أما الغموض والهروب من المسؤولية فسيؤدّيان الى إبقاء القضية الفلسطينية معلّقة، سواء لأن إسرائيل لن تقبل ولن تسهّل أي حلّ يحرّر الفلسطينيين من سيطرتها الأمنية، أو لأن القوى الدولية تعتبر أن الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي تغيّرت طبيعته ليصبح اسرائيلياً – إيرانياً، وبالتالي فإن أي حلّ بات مرتبطاً بحسم قد يكون مستحيلاً لخلافات وصراعات الغرب وإسرائيل مع إيران. وهذه حجة أخرى للحفاظ على الانقسام بين الضفة والقطاع، وبين الفصائل، واعتباره عقبة أمام أي حلّ للقضية الفلسطينية.

عملية “طوفان الأقصى” كانت فعلاً تحريرياً أقدمت عليه “حماس” بجهد فلسطيني خالص وبدعم مؤكّد وشامل وطويل الأمد من إيران، تماماً كما كان دعم المقاومة ومساهمته في تحرير جنوب لبنان من الاحتلال الذي دام من 1982 الى 2000. ولا شك في أن “حماس” ترى أن نجاح “طوفانها” وصمودها (العسكري) الذي تلاه، رغم الكلفة البشرية والعمرانية العالية، يُكسبانها “شرعية” فلسطينية لطالما سعت اليها بين حربٍ وأخرى ولم تتمكّن من نيلها بالوسائل السياسية. أصبح بإمكانها الآن أن تدافع عن خيار المقاومة الذي اتّبعته، وعن “صواب” انقلابها على سلطة رام الله وإخراجها من القطاع، لتتوقّع/ أو لتفرض لها مكاناً بارزاً في منظمة التحرير كما في القيادة الفلسطينية، أو بالأحرى في قيادة فلسطينية أخرى. وهذا يعادل “تغيير النظام” الذي يعمل عليه “حزب إيران/ حزب الله” في لبنان، وما استطاعته إيران نفسها بإمساكها بمفاصل النظام السوري، وما أنجزته ميليشياتها في العراق واليمن.

عدا أن هدف “القضاء على حماس”، كما حدّدته حكومة إسرائيل، مكشوف بكونه يحظر “مقاومة الاحتلال”، فإنه ليس واقعياً بشهادة كثيرين من إسرائيليين وساسة وخبراء غربيين، إلا أنه سيبقى مطروحاً بشكلٍ أو بآخر، كأن يقال بـ “أضعاف قدراتها العسكرية” كتبرير وحافز لاستمرار الحرب على النمط الذي شهده العالم حتى الآن، أو بأن “تتحوّل الى جماعة سياسية” مجرّدة من السلاح. لكن “حماس” مدركة شأنها شأن كل جماعة مسلّحة بأن وجودها مرتبط بسلاحها وعقيدتها الايديولوجية الإيرانية، بل ان فلسطينيتها هي المبرر الأهم لوجودها في مواجهة العدو الإسرائيلي. أما سعيها الى السلطة والقيادة فهذا شأن آخر يعني كما عنى دائماً أن يبقى قطاع غزّة تحت حصار إسرائيلي واقليمي.

ما بعد الحرب في غزّة لن يتضح قريباً، فهناك أولويات إنسانية كثيرة تنافس مسألة الإدارة الأمنية والسياسية. أما بالنسبة الى لبنان فإن اشعال جبهة الجنوب مناصرةً أو مساندة لغزّة فلا بدّ أن تترجم في عقل “حزب إيران” بأنه راكم بدوره مزيداً من “الشرعية”، والأهم أنه خاض ويخوض تجربة نجح في تطبيقها واستثمارها مؤكّداً هذه المرّة – خلافاً لتجربة حرب 2006 – أنه انتزع نهائياً قرار الحرب من صلاحيات الدولة، كما أنه فرض من دون أي رادع اشراك فصائل فلسطينية (وشراذم لبنانية) في عملياته. وبموازاة ذلك أصبح داخلياً الآمر الناهي في تعيينات المناصب العليا في مؤسسات الدولة، لكن الأخطر أنه أصبح رأس الحربة الإيرانية في توسيع نطاق الحرب، فيما تسعى الولايات المتحدة وسائر القوى الدولية الى استرضاء إيران لإبقاء المواجهة في إطار “قواعد الاشتباك”. كيفما استمرّت الحرب على غزّة فإن “حزب إيران” اللبناني سيخرج منها أكثر تحكّما بالبلد، وسيكون الأسهل لديه أن يفرض رئيساً للجمهورية من أتباعه.

شارك المقال