كيسنجر… ثعلب ديبلوماسي مثير للجدل بين العبقرية والاجرام!

زياد سامي عيتاني

لقب بـ”الثعلب العجوز”، ذو السجل الديبلوماسي الحافل، يعتبره كثيرون صاحب رؤية سياسية ورجل دولة وديبلوماسياً مخضرماً، فيما يراه آخرون أحد دعاة الحرب! إنه هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركية الذي غاب عن عمر يناهز مئة عام، والشخصية الديبلوماسية المثيرة للجدل. يعتبره كثيرون ديبلوماسياً عبقرياً يتقن فن ما يمكن تحقيقه بالسياسة بصورة لا مثيل لها، فيما يصفه منتقدوه بأنه “مجرم حرب”، بيد أن الغالبية ترى أنه يقف على مسافة واحدة من الأمرين.

وصل إلى الولايات المتحدة مع أسرته في العام 1938 هارباً من النظام النازي في ألمانيا. ومن هناك بدأ مشواره بدراسة المحاسبة، ثم الالتحاق بالجيش، فالاستخبارات العسكرية، وبعدها تخصص في العلوم السياسية والديبلوماسية، وأصبح واحداً من ألمع وزراء الخارجية في التاريخ الأميركي.

فرض كيسنجر نفسه وجهاً للديبلوماسية العالمية عندما دعاه الجمهوري ريتشارد نيكسون إلى البيت الأبيض في العام 1969 ليتولى منصب مستشار للأمن القومي، ثم وزير الخارجية. وشغل المنصبين معاً من 1973 إلى 1975. وبقي سيد الديبلوماسية الأميركية في عهد جيرالد فورد حتى العام 1977. إن كيسنجر “بصفته مستشاراً للأمن القومي ووزيراً للخارجية، مارس مستوى من السيطرة على السياسة الخارجية للولايات المتحدة نادراً ما يضاهيه فيها أي شخص آخر خارج رتبة الرئيس”. كان يمتلك “رؤية واضحة حيال ما يجب القيام به.. وكيفية الانتقال من مرحلة إلى أخرى”، من خلال تقويمه العقلاني البعيد عن العاطفة، بحيث كان بارعاً في إعتماده قاعدة “الغاية تبرر الوسيلة”.

وصف كيسنجر مواقفه المثيرة للجدل بأنها تمثل القيادة الاستراتيجية، التي هي عبارة عن السير على حبل مشدود أي ما بين “اليقين النسبي للماضي وغموض المستقبل”. وبينما أشاد كثيرون به لتألقه وخبرته الواسعة، وصفه آخرون بأنه “مجرم حرب” لدعمه الديكتاتوريات المناهضة للشيوعية وخصوصاً في أميركا اللاتينية. فالديبلوماسي المخضرم عاصر محطّات مظلمة في تاريخ الولايات المتّحدة، بحيث كان له دور في دعم انقلاب العام 1973 في تشيلي وغزو تيمور الشرقية في 1975، فضلاً عن حرب فيتنام.

يشار إلى أن كيسنجر الذي كان لاعباً رئيساً في الديبلوماسية العالمية خلال الحرب الباردة وحائز نوبل للسلام، أطلق التقارب مع موسكو وبكين في سبعينيات القرن الماضي، معتمداً على رؤية براغماتية للعالم تعد نوعاً من “السياسة الواقعية” على الطريقة الأميركية. وهذا السياسي الأميركي الألماني اليهودي الأصل، صاحب التاريخ الطويل في العمل الدولي في حقبة الحرب الباردة وأثناء أكبر القضايا وأعقدها بما في ذلك المستنقع الفيتنامي، كان يتميز بقدرته على وصف الأشياء كما هي عليه بدقة بالغة، من ذلك قوله الشهير: “أن تكون عدواً للولايات المتحدة أمر خطير، لكن كونك صديقاً فذلك أمر مميت”.

كان كيسنجر أحد منظري سياسة الانفراج مع الاتحاد السوفياتي، وتعرض لانتقادات بسبب ذلك الموقف، إلا أنه في الوقت نفسه كان براغماتياً بامتياز وقد سعى على سبيل المثال إلى التقارب مع الصين في عهد زعيمها ماو تسي تونغ قبل الاعتراف بهذا البلد، ودخل في حوار سري مع بكين في عهد الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون، بهدف دق إسفين بين الاتحاد السوفياتي والصين. كيسنجر على الرغم من شهرته كسياسي ماكر، كان يقر بمكانة روسيا ويحذر من مغبة تجاهل مصالحها، ومن ذلك قوله: “روسيا بلد عظيم وله تاريخ عظيم. من الصعب بالنسبة لي أن أتخيل نظاماً دولياً لا تكون فيه روسيا من بين اللاعبين الرئيسيين”.

ومن خلال ديبلوماسيته المكوكية، تمكن كيسنجر من التوصل إلى اتفاقات بين إسرائيل ومصر وسوريا في أعقاب إطلاق الدول العربية المفاجئ لحرب عام 1973، وخلالها، قاد ما لقّب بالديبلوماسية المكوكية التي ساهمت في رفع الحظر النفطي المفروض على الدول الداعمة لاسرائيل في حرب تشرين الأول. وبفضل جهوده الديبلوماسية، ساهم كيسنجر في التوصل الى اتفاق لإنهاء الحرب بين مصر وإسرائيل خلال حرب 1973. فبحسب تقارير الادارة الأميركية، قاد كيسنجر أثناء توليه منصب وزير الخارجية، 213 زيارة لدول خارجية، كما قضى 33 يوماً في الشرق الأوسط خلال الحرب العربية – الاسرائيلية سنة 1973.

ترك كيسنجر منصبه وهو في الثالثة والخمسين من عمره، وأمضى أربعة عقود في العمل كمستشار خاص في العلاقات الاستراتيجية مع الحكومات في جميع أنحاء العالم. غير أن اللافت، أن هذا السياسي الأميركي المخضرم، لم يخلد إلى الراحة ولم يعتزل العمل، بل واصل نشاطه وأداء أدوار ديبلوماسية من خلال شركته الاستشارية الخاصة، حتى أنه في تموز من هذا العام زار بصورة مفاجئة العاصمة الصينية بكين والتقى رئيسها شي جين بينغ!

قد يكون كيسنجر الديبلوماسي الوحيد في العالم الذي ظل على مدى عقود حاضراً على الساحة السياسية من دون أي منصب رسمي، بحيث كان يقدم “إستشارات جيوسياسية” لعشرات من الزعماء والقادة والحكومات في مختلف أنحاء العالم من دون الكشف عن أسمائهم.

مثلما كان هنري كيسنجر شخصية مثيرة للجدل على مدى مئة عام من عمره، فإن باب هذا الجدل سيبقى مشرّعاً بعد وفاته، عندما ستسرّب الوثائق السرية المتعلقة بنشاطه الرسمي وغير الرسمي، التي تمتلئ بها خزائن أجهزة المخابرات في جميع الدول التي كان ينشط فيها سراً وعلانية.

شارك المقال