انقلابات “الحزب” من “الطائف” إلى القرار 1701!

جورج حايك
جورج حايك

لا يكلّ “حزب الله” ولا يملّ من الانقلاب على الدستور ومقررات الحوارات الوطنية والتفاهمات والقرارات الدولية، وربما آخر الضحايا كان القرار 1701 الذي يضمن سيادة لبنان وسلامة اللبنانيين ويقطع الطريق على محاولات جر البلد من أي جهة إلى الحرب التي تدمِّر ما لم يدمِّره “الحزب” بعد، فضلاً عن الأضرار البشرية والمالية الناجمة عن عدم تطبيق هذا القرار والمتمثلة في إقحام “الحزب” الشعب اللبناني في حرب غزة وكأنه الآمر والناهي في لبنان، فيتخذ قرار الحرب من دون العودة إلى أحد.

والمستغرب أن تطرح بعض القنوات الداخلية المتمثلة في حكومة تصريف الأعمال من جهة، وبعض القنوات الديبلوماسية من جهة أخرى، تسويات مع “الحزب” على قاعدة تغيير أسلوب المواجهة والعودة إلى الالتزام بالقرار 1701، مقابل التساهل في ملف رئاسة الجمهورية اللبنانية، فيما المطلوب محاسبة الفريق الذي ورّط لبنان في حرب غزة وليس مكافأته، وهذا الأمر غير مطروح طبعاً من قوى المعارضة التي أكدت مصادرها أن المطلوب هو الفصل التام بين الدولة والدويلة، وهذا الفصل يجب أن يبدأ من الانتخابات الرئاسية، وما يحصل في جنوب لبنان يستوجب الحزم والتشدُّد لا التراخي والتنازل، والتشدُّد المطلوب اليوم في اتجاهين: إخراج المسلحين، جميع المسلحين، من جنوب الليطاني تطبيقاً للقرار 1701، وانتخاب رئيس للدولة اللبنانية وليس لدويلة الممانعة.

وترى مصادر المعارضة أن انتخاب رئيس للجمهورية سيادي وإصلاحي يعيد إلى الرئاسة الأولى دورها الساهر على الدستور وليس الانقلابي على الدولة والدستور، فلا أحد يتوقّع من رئيس الجمهورية العتيد أن يبسط سيادة الدولة وينزع أي سلاح غير شرعي خارجها، ولكن ما هو متوقّع من هذا الرئيس ومطلوب أن يكون المدافع الأول عن الدولة والدستور والسيادة والإصلاح، فيما الفريق الممانع يريد رئيساً لجمهوريته الممانعة في استمرار لعملية الانقلاب على الدولة والدستور.

لكن، واقعياً، لا أحد ينتظر من “حزب الله” أن يتراجع عن أدائه المهيمن، سواء في احتكاره لقرار الحرب والسلم أو تعطيل انتخاب رئيس الجمهورية، وباتت أكثرية الشعب اللبنانية مقتنعة بأن مشروع “الحزب” لا علاقة له بمصلحة لبنان، وما يحصل اليوم من انقلاب على القرار 1701، ليس سوى دليل على عدم اعتراف “الحزب” بكل ما يؤخر المشروع الايراني الطامح إلى السيطرة على الدول العربية، ولبنان احدى هذه الدول – الضحية. والمدهش في مسألة القرار 1701 أن “الحزب” خلال حرب تموز 2006، حرص على الوقوف وراء رئيس الوزراء فؤاد السنيورة آنذاك وجهوده حتى يضمن التوصل إلى إنهاء القتال بالقرار 1701. وقد أعلن الأمين العام لـ”الحزب” حسن نصر الله في 9 آب 2006، أنه منذ بداية المعركة حرص على “وحدة الصف والتضامن الوطني والشعبي وأيضاً التضامن الرسمي على مستوى الدولة ومؤسساتها. وأيضاً تقوية موقف الدولة، وبالأخص في الحكومة في التفاوض والحفاظ على الحقوق الوطنية”. وأضاف أن “الحكومة تتصرف بمسؤولية سياسية كبيرة وأن هناك مسؤوليات كبيرة ملقاة على عاتق الحكومة والدولة عموماً، ترتبط بالجانب الأمني والاعماري والانساني والسياسي”.

وفي آخر حرب تموز 2006 تعهد “الحزب” بتنفيذ البنود السبعة التي كانت جوهر القرار الدولي 1701 بحيث قبل بتسليم الجنوب الى الدولة اللبنانية وضمناً القبول بتسليم سلاحه.

لكن فجأة انقلب المشهد رأساً على عقب، ونسف نصر الله كلامه بعد ثلاثة أيام من صدوره، ليشن هجوماً شرساً على السنيورة ويتهمه بالعمالة والخيانة ويبدأ بتخريب العلاقات مع دول الخليج، وتحديداً السعودية، التي كانت لها المساهمة الكبرى في إعادة إعمار ما هدمته مغامرته، وكان بذلك يعلن العمل على إلغاء الدولة اللبنانية ومؤسساتها. حينها لم يتوقف نصر الله كثيراً أو قليلاً عند الجهود الديبلوماسية التي أوقفت المجازر الاسرائيلية بحق “الشرفاء والأطهار”. فهذه الجهود لا تنفع في التعبئة المطلوبة وصولاً إلى حيث يشاء مشغله الايراني.

واليوم لم يتغير شيء،، إذ يمارس “الحزب” يومياً طقوس دفن القرار 1701، تحت عذر مواجهة إسرائيل نصرة لغزة، والأسوأ أنه يعلم بمصادرته قرار الدولة اللبنانية وينسفها من أساسها لتبقى تحت قبضة “الحزب” ومشغّله، تماماً، كما فعل في حرب تموز وحروب سوريا واليمن وتورطه في زعزعة الاستقرار في بعض الدول العربية وفقاً لأوامر إيرانية.

ليس القرار 1701 الضحية الأولى والأخيرة لـ”حزب الله”، فقصته مع الانقلابات قديمة وتعود إلى اتفاق الطائف. ولا شك في أن “الحزب” لم يكن من المؤيدين لهذا الاتفاق في البداية، إلا أنه انخرط فيه وتأقلم معه وتراجع عن رفضه له وبات مشاركاً في هذا النظام بكل مؤسساته أي البرلمان والحكومات المتعاقبة، من الباب الواسع، منذ العام 2005.

أول انقلاب على “الطائف”​، كان حفاظ “الحزب” على سلاحه واعتباره مقاومة، وليس ميليشيا مستنداً إلى دعم النظام السوري الذي كان يحتل لبنان، وبعد العام 2005 وخروج الجيش السوري من لبنان الذي كان يمنع تطبيق “الطائف”، حلّ “الحزب” مكانه، مطوّراً أساليب الهيمنة ومفرّغاً “الطائف” من مضمونه، موسّعاً دور سلاحه غير الشرعي من التحرير إلى الحماية والدفاع، موطّناً سلاحه داخل بنية الدولة ضمن وظيفة مستدامة لا تنتهي! علماً أن “الطائف” ينص على وجوب حل جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية وتسليم أسلحتها إلى الدولة اللبنانية خلال ستة أشهر تبدأ بعد التصديق على وثيقة الوفاق الوطني… وهذا ما لم يفعله “الحزب” مستقوياً بالسوريين، ولا يزال يرفض حتى اليوم.

الانقلاب الثاني تمثّل في إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري عام 2005، وما يرمز اليه كضمانة لتنفيذ اتفاق الطائف، وخصوصاً أنه كان يعمل على تحقيق توازن وطني بين المسيحيين والمسلمين، ومنذ ذلك الوقت، تقدّم مفهوم الدويلة على الدولة، وتدهورت المؤسسات على نحو رهيب.

الانقلاب الثالث كان عام 2006، عندما جلس “حزب الله” مع القوى السياسية اللبنانية الأساسية في جلسات حوار وطني، ووعد بصيف مستقر وواعد، إضافة إلى مقررات حول السلاح غير الشرعي ولا سيما السلاح الفلسطيني، وسرعان ما انقلب على الحوار وسخر من اللبنانيين بعد ان أسر جنديين اسرائيليين، ما أدى إلى حرب مدمّرة مع اسرائيل، فتحوّل من صيف واعد إلى ملتهب!

الانقلاب الرابع كان في 7 أيار 2008 عندما أعطى نصر الله أوامره بشنّ غزوة عسكرية ضد أركان الحكومة اللبنانية، في ذاك الحين. وأقرّ هذه المرة بأنّه يريد فعلاً أن يفرض نفسه مرشداً أعلى للجمهورية اللبنانية، مستنسخاً، بذلك نموذج سيّده السياسي والعقائدي والديني علي خامنئي الذي يتولّى منصب المرشد الأعلى للجمهورية الاسلامية في إيران. ولم يحد رئيس الحزب “التقدمي الاشتراكي” السابق وليد جنبلاط عن جادة فهم هذه الخلفية، حين طلب من نصر الله، في تعليق على كلمته “أن يحدّد لنا ما هو المسموح وما هو الممنوع، وذلك أفضل من أن نضيّع وقتنا في التخمين”. بعدها حصل اتفاق الدوحة وتكرّس الثلث المعطّل لـ”حزب الله” في الحكومات التي تشكلت منذ ذاك الحين حتى اليوم!

الانقلاب الخامس عام 2011 عندما كان الرئيس سعد الحريري يدخل إلى البيت الأبيض للقاء الرئيس الأميركي، استخدم “حزب الله” ورئيس “التيار الوطني الحر” الثلث المعطل للانقلاب على حكومة الحريري، علماً أن الأخير كان ضد مبدأ الثلث المعطل في الحكومات! وتشكّلت حكومة “حزب الله” برئاسة نجيب ميقاتي الذي شكّل غطاء لـ”الحزب” كي ينفّذ سياسة الهيمنة التي يحترفها.

الانقلاب السادس عام 2012، عندما توصّلت طاولة الحوار برئاسة ميشال سليمان إلى “إعلان بعبدا”، وتعهّد المشاركون في الحوار، ومن ضمنهم “حزب الله”، بأن يلتزموا، بمقتضيات “النأي بالنفس” عن صراعات الاقليم وحروبه ومحاوره. وأصبح هذا “الاعلان” وثيقة دولية وتمّ على أساسها تشكيل “مجموعة الدعم الدولية للبنان” التي هدفت إلى مساعدة البلاد وتقوية الجيش وسائر القوى الأمنية الشرعية في البلاد. لكن سرعان ما إنقلب “الحزب” على “إعلان بعبدا”، بعدما تلقى أوامر “الحرس الثوري الايراني” بالدخول إلى سوريا والمشاركة في الحرب لمصلحة النظام فيها، وإرسال مستشارين عسكريين إلى اليمن والعراق، كما دعم المعارضة البحرانية، فانقضّ على “إعلان بعبدا” وتنصّل منه و”احتقره”، قبل أن يبدأ بـ”شيطنة” الرئيس سليمان، بسبب تمسكه بهذا “الاعلان”، على اعتباره خشبة الخلاص الوحيدة في ظل الطوفان في الاقليم المحيط بلبنان. ومنذ ذاك الوقت، باتت معادلة “الحزب”: “تتفقون على ما أقرره أو لا حياة ولا هناء ولا استقرار لكم ولوطنكم الذي أرفض هويته المتنوعة”، فاتجه لبنان نحو الانهيار الكبير.

شلّ “الحزب” الدولة بل أغرقها في الموت السريري، وفرض النائب ميشال عون رئيساً وعطّل تشكيل الحكومات وهو مسار متكامل كان الهدف من خلاله وضع يده على البلد. وتحوّلت الحكومات التي سيطر عليها “الحزب” عنواناً للفساد والصفقات والسمسرات ليحصل على غطاء سياسي لوجوده المسلح غير الشرعي، وانغماسه في ممارسة كل الموبقات خارج إطار الدولة. واستغل الأزمة الاقتصادية المالية الأخيرة ليجذّر خلالها شبكات اقتصادية ومالية واجتماعية وصحية موازية لشبكات الدولة.

الانقلاب السابع كان في معاطاة “الحزب” مع الاستحقاق الرئاسي منذ تشرين الثاني 2022، ضارباً بمبدأ الانتخاب عرض الحائط، فراح يطيّر النصاب بالتعاون مع رئيس مجلس النواب نبيه بري، ودخل منطق فرض الرئيس وهو استكمال لانقلاب خطير.

الانقلاب الثامن، أتى بالتزامن مع حرب غزة، معلناً “الحزب” توجيه ضربات الى اسرائيل على الحدود نصرة لغزة، دافناً القرار 1701 تحت سابع أرض، فانتقل بسلاحه من مفهوم التحرير ثم الردع والآن نصرة لغزة، ويبدو أن لا نهاية لهذا المسار الدراماتيكي.

في المحصّلة، ينفّذ “حزب الله” عملية انقلاب منذ أعوام، وهو يضع يده على البلد بخطى ثابتة من خلال تعطيل الآليات الدستورية واستخدام فائض القوة، وفي الخلفية جمهورية اسلامية إيرانية، تريد أن يكون لبنان دولة تابعة لها، بل ساحة تستخدمها لتحقيق مصالحها، وهذا هو دور “حزب الله” الذي يتلقى المال والسلاح من إيران، أما لبنان فيدفع الثمن بؤساً وفقراً وموتاً.

شارك المقال