رياح لبنان سارت عكس ما تشتهيه سفن كيسنجر!

جورج حايك
جورج حايك

كان وزير الخارجية الأميركية السابق ومهندس خططها الاستراتيجية هنري كيسنجر الذي رحل الخميس، لاعباً أساسياً في السياسة اللبنانية والشرق أوسطية في حقبتي السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، ولا يزال اللبنانيون يعيشون ذيول ما خطط له وخصوصاً في ما يتعلق برؤيته للقضية الفلسطينية وانحيازه الى إسرائيل وتعاونه مع نظام حافظ الأسد على حساب لبنان واستقراره.

لا حسن نيّة ومبادئ في السياسة الدولية، بل واقعية ومصالح، وتلك كانت معادلة كيسنجر والادارة الأميركية التي كان يعمل لمصلحتها، وحتماً شهدت مرحلة السبعينيات والثمانينيات حرباً باردة بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي، وتحوّل لبنان في تلك الحقبة إلى ساحة لتصفية الحسابات، وقد استغلت الدول العظمى الخلافات الداخلية اللبنانية وجعلتها مادة في خططها الكبيرة والخطيرة وأبرز من لعب هذا الدور آنذاك كان كيسنجر.

فالمنطقة كانت تشهد في مطلع السبعينيات تحولات جوهرية بدأت بموت جمال عبد الناصر راعي اتفاق القاهرة بين لبنان والمنظمات الفلسطينية المسلحة على رأسها “فتح”، ثم خروج الفدائيين الفلسطينيين من الأردن وانتقالهم الى لبنان، وأخيراً حرب تشرين 1973 التي خرجت منها سوريا حافظ الأسد بانتصار سياسي كبير وظف داخلياً، وكان هذا الانتصار السياسي بمثابة تكريس لزعامة الأسد ودوره الاقليمي وضمانة لاستمرار نظامه.

في ظل هذه الظروف والتعقيدات، توجّه كيسنجر إلى لبنان للقاء الرئيس سليمان فرنجية في 16 كانون الأول 1973، في إطار جولة له على عواصم المنطقة. وفيما كان الرئيس فرنجية وفريقه يستعدّان لاستقباله في مطار بيروت، تلقّت الأجهزة الأمنيّة تقارير خطرة تفيد بأنّ الفلسطنيين نصبوا صواريخ “ستينغر” في محيط مدرج مطار بيروت لاستهداف كيسنجر. كانت تلك الصواريخ سهلة النقل، ومن الصعب العثور عليها.

لم يشأ فرنجية أن يُجازف، فاضطرّ رغماً عنه، ووسط سرّية تامّة، أن يستقبل وزير الخارجية الأميركي في مطار رياق العسكريّ. كان فرنجية يعتقد، قبل تلك المقابلة، أنّ الأُمم العظمى تقف موقفاً غير متحيِّز، فناشد كيسنجر خلال جولته في المنطقة إحلال السلام في الشرق الأوسط، حيث طردت إسرائيل شعباً بكامله من أرضه وشتتته في الدول المجاورة. وأضاف أنْ ليس أمام الولايات المتحدة سوى تطبيق بنود ميثاق الأمم المتحدة، لتُعيد ما أُخذ بالقوة والظلم.

نظر كيسنجر إلى فرنجية وقال له ببرودة: “سيّدي الرئيس، إنّ ما يشغل بالي هو مستقبل إسرائيل وأمنها النهائي. ومن أجل ذلك يجب أن يقبل لبنان ببقاء الفلسطينيين في أراضيه. وبذلك يتساوى عدد السُنّة مع عدد الشيعة، وهذا ما يحقق التوازن في لبنان. أمّا أنتم المسيحيّون، فبفضل دينكم وتمتعكم بالثقافة وإجادتكم أكثر من لغة، تستطيعون أن تطلبوا أيّة جنسية تختارونها، بدءاً بالجنسيتين الأميركية والكندية، وهما منذ اليوم متاحتان لكم”. حتماً رفض فرنجية هذا الكلام، وقدّم شرحاً مسهباً لكيسنجر أنه قد يؤدي إلى زعزعة استقرار لبنان.

لكن الوضع في لبنان إنفجر فيما كانت الادارة الأميركية منهمكة في مسائل أخرى أبرزها معالجة ذيول الانسحاب من فيتنام على الصعيد العالمي والاستمرار في الجهود لتحقيق مزيد من التقدم بين مصر أنور السادات واسرائيل وذلك بعد التوصل الى اتفاق فك الاشتباك الأول بين الجانبين. اما بالنسبة الى سوريا، فقد كان الهم الأميركي منصباً وقتذاك على ما اذا كان في الامكان الذهاب الى أبعد من اتفاق فك الاشتباك الذي تحقق في الجولان عام 1974.

اندلعت الحرب في لبنان في 13 نيسان 1975 إثر حادثة بوسطة عين الرمانة الشهيرة، بعدما طفح كيل القوى المسيحية من تجاوزات الوجود الفلسطيني المسلّح، وقررت التصدي له. وقد فوجئ هنري كيسنجر وقتذاك بأنه أمام ملف لبناني ساخن يمكن أن يؤدي الى نزاع اقليمي وليس أمام نزاع داخلي في بلد صغير فقط.

وهنا برز مشروع كيسنجر القائم على اقتسام لبنان الى منطقتين وفقاً لنظام الخطوط الحمر بين سوريا واسرائيل. على أن يكون لبنان الوطن البديل للفلسطينيين فتحلّ عقدة الشعب الزائد في المنطقة، لكن تحقيق هذا الهدف يستدعي السيطرة على لبنان أولاً، وهذا لن يكون ممكناً إلا بالسيطرة على المسيحيين وهو ما قاله كيسنجر للرئيس حافظ الأسد يوم فاتح الأميركيين بإمكان الدخول الى لبنان.

ويؤكد ديبلوماسي لبناني قديم أن كيسنجر توصل نتيجة المشاورات التي أجراها مع زعماء دول المنطقة الى أن أفضل ما يمكن عمله لاحتواء الحرب اللبنانية ارسال قوات عربية الى هذا البلد يكون عمودها الفقري قوات سورية! واللافت أن ثقة كيسنجر بسوريا كانت نتيجة إعجابه بالرئيس الراحل حافظ الأسد، وقد استفاض الديبلوماسيّ في مذكراته التي كتبها بعدما تجاوز سنواته التسعين، في تعداد صفات الأسد وفي مقدّمها الدهاء والصبر والوصول إلى حافة الهاوية ثم القفز من فوق الحافة لإدراكه أنّ ثمة شجرة قد يتعلّق بها!

لكن كيسنجر أصيب بخيبة أمل شديدة جرّاء المواقف التي اتخذها المسيحيون اللبنانيون بقيادة بشير الجميّل، وهي مواقف تعبّر عن رفضها الانصياع الى خطته التي كانت ستؤدي إلى تهجيرهم، فاستخدموا القوة العسكرية للصمود ومنع استبدالهم بالفلسطينيين.

مع ذلك، بدأ أول تفاهم أميركي – سوري من لبنان، عبر تشجيع الأسد على الدخول بجيشه إلى لبنان، وكان كيسنجر هو صاحب الفكرة الجهنمية في الافادة من التدخل السوري في لبنان، وفي إقناع الإسرائيليين بذلك. وهكذا جرى وضع التفاهم الضمني المعروف باتفاقية “الخطوط الحمر” التي وافقت بموجبها إسرائيل على الوجود السوري العسكري في لبنان ضمن شروط وقيود محددة بدقة.

منذ العام 1976 تاريخ البدء بهذا التفاهم وحتى العام 2005، لم تبرز مؤشرات أميركية واضحة تدل على رغبة أميركية في إعادة النظر الجذرية بالوجود العسكري السوري في لبنان الذي تحول في العقد الأخير لا سيّما بعد البدء بتطبيق “اتفاق الطائف” إلى دولة واقعة بصورة شبه كاملة تحت النفوذ السوري. ولم يتغيّر الوضع إلا بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، واطلاق ثورة الأرز عام 2005، وضغط إدارة الرئيس جورج بوش على السوريين لتطبيق القرار 1995. فخرج الاحتلال السوري من لبنان في 26 نيسان 2005.

ولا شك في أن لبنان دفع ثمن سياسات كيسنجر في المنطقة، وهو ساق كلّ المبرّرات اللازمة لاعلان لبنان حقل اختبار لسياسته الملتوية. ويقول المخضرم كريم بقرادوني الذي عاصر فترة الحرب كمشارك ومراقب، إنّ واشنطن كانت تمدّ “حرب السنتين” بـ”ولعة” كلّما انطفأت. فيما كتب الزعيم الدرزي كمال جنبلاط في مذكراته، أنّ وكالة الاستخبارات الأميركية الـ CIA أنفقت 250 مليون دولار أميركي لزعزعة استقرار لبنان، ما يعني أنّ واشنطن أشعلت الحرب وأزكتها وسلّمت لبنان إلى “منظمة التحرير الفلسطينية”، بهدف إحراج المسيحيين عسكرياً تمهيداً لإخراجهم من لبنان. وقد أوفد كيسنجر إبان هذه الحرب المدبّرة مبعوثه دين براون، ليتلو على مسامع الرئيس فرنجية فرمان الترحيل إياه الذي تلاه كيسنجر من قبله.

لاعتبارات عديدة لا يمكن اعتبار هنري كيسنجر سياسياً بسيطاً بل يمكن تصنيفه في خانة واحدة: لقد كان ثعلباً ماكراً، وشخصية كبيرة مؤثرة حتى بعد مغادرته منصبه.

لا شيء يؤكّد أن “مخطط كيسنجر” انتهى، بل ربما نعيش آخر فصول المؤامرة، وهي تفريغ هذا الوطن من أبنائه. إن تدمير لبنان وتهجير أبنائه هو هدية المتآمرين على لبنان لغير اللبنانيين. ومن كيسنجر إلى جو بايدن، هناك من يكمل الخطة بدقة متناهية. كيسنجر ذهب من الخارجية والادارة الأميركيتين، لكن المخطط بقي، وتنفيذه مستمر.

شارك المقال