إستراتيجية الحرب على غزة متغيرة من دون رؤية واضحة!

زياد سامي عيتاني

مع عودة العدوان الاسرائيلي الواسع على غزة، بعد الهدنة الانسانية لالتقاط الأنفاس، وفي ظل غياب رؤية واضحة لدى العدو الصهيوني بشأن مستقبل غزة، جراء الإخفاق والتخبط والضياع، لا بد من طرح جملة تساؤلات تتعلق بإصرار رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو على المضي في عدوانه، على الرغم من فشله الذريع في تحقيق أي من الأهداف التي أعلنها. فما هي الأهداف التي يسعى العدو الصهيوني إلى تحقيقها في غزة؟ وما هي طريقته في الوصول إليها؟ والأهم، هل تقدر أو تصلح أدواته العسكرية لتحقيق تلك الأهداف؟ وإذا كان من الممكن لها أن تحقّقها، فبأي تكلفة عسكرية وسياسية؟ والسؤال المركزي: ما هي إستراتيجية العدو الصهيوني عسكرياً في عدوانه على غزة؟

قبل التعمق في محاولة التوصل إلى فهم تلك الاستراتيجية، لا بد من العودة إلى بداية الصراع بين الاسرائيليين وفلسطينيي القطاع، بالاعتماد على تقرير لمؤسسة “راند” الأميركية أشرف عليه عدد من الخبراء، بعنوان “دروس من حروب إسرائيل في غزة”، وهو يغطي مرحلة 2009 – 2014، عن أن محور استراتيجية الكيان الصهيوني في غزة يقوم على مفهوم “الردع”، أي ردع المقاومة عن ممارسة العمل العسكري ضده، وأنه لم يسعَ قط إلى تحقيق نصر عسكري حاسم في غزة، ولا إلى إطاحة “حماس” (خوفاً من فراغ تملأه قوى أكثر جذرية)، ولا إلى تحمّل مسؤولية ملء الفراغ في غزة بعد الحرب، وأن استراتيجية إسرائيل العليا أصبحت بالتالي “جزّ العشب”، أي تقبل عدم القدرة على حل مشكلة غزة بصورة دائمة مع استهداف قيادات فصائل المقاومة دورياً وتكراراً من أجل “إبقاء العنف تحت السيطرة”.

إلا أن حدة المواجهات بعد هذه المرحلة، تصاعدت مع بداية تطوير القدرات العسكرية للمقاومة في القطاع، لا سيما في تشرين الثاني 2018، ومن ثم أيار 2019، وصولاً إلى معركة “صيحة الفجر” في تشرين الثاني 2019. حينها نشر “غور لاييش” وهو عقيد متقاعد في سلاح جو العدو الصهيوني، وأحد كبار الباحثين سابقاً في مجلس الأمن القومي للكيان الصهيوني، مقالة في “مجلة الاستراتيجية العسكرية” في صيف 2019، استنتج فيها أن إسرائيل ليست لديها إستراتيجية في غزة، فهي تعلن أن هدفها هو تغيير النظام، وإطاحة “حماس”، لكنها لا تملك إستراتيجية لتحقيق ذلك الهدف، وتكتفي بالتالي بتحقيق أهداف قصيرة المدى تحت عنوان “الحفاظ على أمنها”. لذلك، بقي الصراع منخفض الوتيرة، لأن نتنياهو، بحسب المقالة، كان يرى تكلفة الدخول إلى غزة أعلى من فائدته. في حين رأى كاتب المقالة ضرورة التصعيد لحل المشكلة جذرياً، من خلال عملية عسكرية كبيرة توظّف ميلان ميزان القوى عسكرياً لمصلحة إسرائيل، وتؤسس للردع بعيداً عن إدارة مسرح صراع منخفض الوتيرة. فإما الحسم عسكرياً، وإما التفاهم مع “حماس” سياسياً، وهما خياران أحلاهما مر، حسب تعبيره.

بحسب ما سبق، لم تخرج نتائج معركة “سيف القدس” أو “حارس الأسوار” في المصطلح الصهيوني، في أيار 2021، عن سياق إعادة الوضع إلى سابق عهده بعد وقفٍ لاطلاق النار، مع مواصلة الحصار الخانق على غزة، الذي احتقن حتى فاض طوفاناً، لتبدأ مرحلة جديدة تماماً بعد 7 تشرين الأول الماضي. ربما إستند المحللون السياسيون الذين أصرّوا على أن العدو الصهيوني لن يدخل غزة برياً، الى الاستراتيجية العسكرية الصهيونية في غزة قبل “طوفان الأقصى”، وهي إستراتيجية كان هدفها الأعلى “الردع”، عن طريق:

أ- القصف الجوي والصاروخي من بعيد.

ب- الاغتيالات الموجّهة “جز العشب”.

ج- تشديد الحصار على غزة باضطراد.

د- تحسين الدفاعات الاسرائيلية تكنولوجياً في مواجهة الترسانة الصاروخية الفلسطينية… لكن بعد عملية “طوفان الأقصى” التي “قصمت ظهر بعير” الجيش الاسرائيلي، والصمود الأسطوري لغزة ومقاوميها، على الرغم من آلاف الأطنان من القذائف والصواريخ (التي فقدت الى حد كبير ذكاءها) تأكد بما لا يقبل الجدل أن تلك الاستراتيجية فشلت فشلاً ذريعاً، وأن المقاومة طوّرت قدراتها عسكرياً، تحت أقسى ظروف الحصار، إلى مستويات مذهلة، وأن فكرة “إحتواء غزة”، التي ربما نجحت نسبياً سابقاً، تجاوزها الزمن. وهذا ما دفع الجيش الاسرائيلي في 27/10/2023، إلى شن هجوم بري واسع النطاق، على غزة.

وعن الاجتياح البري لغزة، نشرت صحيفة “واشنطن بوست” في 10/11/2023، تقريراً بعنوان “العقيدة العسكرية العقابية التي يبدو أن إسرائيل تتبعها في غزة” يؤكد أن “جيش الدفاع الاسرائيلي”، في رده الانتقامي على عملية “طوفان الأقصى”، يركّز على إيقاع الضرر، لا على الدقة في الاستهداف. وأطلق واضع التقرير على الأعمال العدوانية على غزة توصيف “مبدأ الضاحية”، قاصداً الضاحية الجنوبية لبيروت خلال عدوان عام 2006، والذي يقوم على مبدأ “الرد غير المتناسب” على كل منطقة ينطلق منها هجوم على إسرائيل. “كيف تخطط إسرائيل لهزيمة حماس في غزة”؟ تحت هذا العنوان كشف تقرير مجلة “فورن بوليسي” الأميركية، في 3/11/2023، أن الكيان الصهيوني لا ينوي الدخول إلى الأنفاق أو خوض قتال شوارع في الحارات الضيّقة واحدة تلو الأخرى، على غرار ما فعله جيش الاحتلال الأميركي في الفلوجة في العراق عام 2004، مضيفاً أن خطة السيطرة على غزة تقوم على شن غارات في الأماكن المبنية، وتثبيت موطئ قدم فيها، وإستخدامها لجمع معلومات إستخبارية تتيح تحقيق أهداف تكتيكية، مثل تصفية قيادات المقاومة العسكرية، وخنق الأنفاق، وتحرير الرهائن. من البديهي أن مثل تلك الطريقة، بحسب التقرير ذاته، ستتطلب وقتاً طويلاً، أشهراً ربما، لكنها الطريقة الأفضل لتقليص خسائر “جيش” الاحتلال، وترك الحصار يستنزف فصائل المقاومة وحواضنها.

أما موقع “Media Line” الاسرائيلي وفي تقرير له بعنوان “مناورات سياسية وعسكرية تشكّل استراتيجية ضد حماس” في 16/11/2023، فيكشف أن العملية الحالية تتركز على شمال غزة، وعلى عزل مدينة غزة تحديداً، وأن المرحلة التالية ستركّز على وسط غزة، من مخيم النصيرات إلى دير البلح، وأن “جيش الدفاع الاسرائيلي” سيوجّه جهوده البرية في المرحلة الثالثة جنوبي غزة.

بعد عرض أهم التقارير التي تناولت الاستراتيجية العسكرية الاسرائيلية في حربها على غزة، وللاجابة عن الأسئلة التي بيّناها في مستهل المقال، قد يكون إستنتاج رافاييل كوهين، أحد كتّاب تقرير معهد “راند” المذكور أعلاه، هو الاجابة الواضحة، بحيث أشار الى “أنه يتطلب سيطرة إسرائيل على من يستطيع أن يغادر أو لا يغادر قطاع غزة، وعلى دخول الوقود إلى القطاع، وأن أنفاق المقاومة تمرّ تحت كثير من المستشفيات والمدارس والجوامع والبنية التحتية المدنية، وبالتالي لا مفر من إستهدافها، وأن تدمير المباني لا مفر منه لأن الأنفاق تقع تحتها، وأن عضوية حماس تضم 20 إلى 25 ألفاً، ناهيك عن أعضاء التنظيمات الأخرى، متوزّعين عبر القطاع، وبالتالي لا مفر من حملات قصف جماعي”.

شارك المقال