نوبة تفاؤل؟ لمَ لا؟

علي نون
علي نون

أمر جيد أن يبث رئيس الحكومة المكلف أجواء إيجابية في أول كلامه عن مهمته الكبيرة. وجودة الأمر هذا لا تعني صحته وصوابه بقدر ما تعني ضرورته لجهة انعكاساته على اللبنانيين المتمسكين بأي أمل، أو اليائسين إلى حد رغبتهم بالتمسك بأي أمل حتى لو كان جلّه سراباً؟

وطبيعي أن يندفع الرئيس المكلف إلى بث تلك الجرعات المنعشة في جسد يتلاشى، وأن يوزع تفاؤله بالعدل والقسطاس سراً وعلنا، وأن يفترض بأن حدّة الأزمة الوجودية الراهنة وشدّتها تفرضان فرضاً اقتراب أهل الحل والربط وأهل التعطيل والتنكيل، وأهل الأنا المتضخمة، من فهم خطورة وتداعيات مواقفهم عليهم كما على غيرهم، والحاجة بالتالي إلى “هدنة” لالتقاط الأنفاس وتهدئة الناس.

يفترض السيد ميقاتي بأنه عندما يعتمد المنطق الصحيح والمتوازن في مخاطبة أهل التجارة السياسية والاقتصادية، وأهل الارتباطات الخارجة إلى طهران والآتية منها، وأهل الاستراتيجيات الكبرى الذين يفرشون طريقهم بالجماجم، ويبنون صروحهم بالدم والنار، ويعلون بنيانهم بتكثير الحطام والخراب واليباب، ويظنون أن إنزال البلاء بعموم الناس (الأغيار) هو شأن لا مناص منه من أجل إعلاء الذات ومشروعها المسقوف بيوم القيامة… يفترض ميقاتي أن منطقه هذا لا بد أن يصل إلى مكان يتطلع إليه اللبنانيون والمهتمون بهمومهم، والخائفون عليهم ومنهم، والراغبون بمساعدتهم، أي إلى تشكيل حكومة جديدة تباشر محاولة وقف الحفر قبل الشروع في ردم الحفرة وبدء الصعود إلى مستوى الأرض ليس إلا.

وقدّ تصحّ نوبة التفاؤل هذه المرة، إذا كانت المواقف المعلنة هي ذاتها المضمرة، لكن السؤال هنا تماماً: هل نضجت واستوت ظروف إخراج لبنان واللبنانيين (مرحلياً) من أسر الحسابات الإيرانية؟ وهل “فرض ” حزب إيران في لبنان عليها قراءة تفيد بأن الورقة تحترق! وإذا صارت رماداً لا تنفع بشيء في سوق فيينا ولا في أي سوق أخرى، وأن الابتزاز بأوجاع اللبنانيين لم يعد كثير الجدوى طالما أن الضنك وصل إلى البيئة الحاضنة ذاتها، وطالما أن حدّة الإقفال تبدو أكبر من كل تدبير استباقي ذاتي وحاجات الدول ليست هي ذاتها حاجات التنظيم العسكري، وطالما أن جبال متطلبات العيش أكبر وأقسى من أن تخرقها كثرة اللغو والحشو بالانتصارات، وطالما أن التفلت الضارب في كل مكان وصل أخيراً إلى داخل الأسوار التي كان الظن بأنها محصّنة، وطالما أن العقود الأربعة الماضية من الضخ “والتثقيف “والتعبئة المستدامة والضجيج الانتصاري الذي لا يهدأ ولا يكلّ ولا يملّ… ذلك كله قد يتبخر في غضون شهور قليلة.

ألا تقول الحكمة الخالدة أن عقل الجائع في بطنه؟ وأن أطنان الحديد لا توازي لقمة خبز واحدة، وأن “أضواء” الصواريخ لا تعوض انقطاع الكهرباء، وأن السيارات لا تمشي بالشعارات بدلاً من البنزين، وأن رفوف الصيدليات غير رفوف مخازن السلاح، وأن أفران الخبز مختلفة عن غرف العمليات الحربية والأمنية، وأن البيوت لا تستطيع استبدال شحم المدافع بالمياه، وأن الأمن الاجتماعي في أحيان كثيرة أخطر من الأمن السياسي، وأكثر قدرة على النخر والتعرية والتحطيم من كل “تآمر” خارجي مدّعى أو صحيح.

…الأسئله كثيرة والجواب واحد. وتلك منطقية وهذا خارج حدود أي منطق سوي. والواضح من كل قراءة عاقلة وهادئة أن تكثير الضّخ التفاؤلي لا يعني ولا ينتج حصيلة سياسية أكيدة طالما أن مشروع ايران وحزبها كبير، فيما أوجاع اللبنانيين صغيرة! وطالما أن الأسئلة الكثيرة عادلة والجواب الوحيد عليها ظالم تماما.

إقرأ أيضاً: أولوية نصر الله صيانة تحالفاته المتناقضة على تشكيل الحكومة

ليس مستساغاً إطلاق الخلاصات الكئيبة أمام اليائسين، ولا إشاعة المزيد من السواد وسط الظلام والظلمات، لكن ليس من حق أحد أن يبيع الناس أوهاماً، خصوصاً إذا كان ذلك الأحد هو رئيس كتلة “حزب الله” النيابية …السيد محمد رعد أعلن أن كتلته سمّت ميقاتي لتكليفه تشكيل الحكومة (وهذه التسمية قصة كبيرة في ذاتها) لكنه في اللحظة ذاتها كشف المضمر في الإعلان: كأنه يحاول تبرئة ذمّة حزبه مسبقاً من الفشل الآتي طالما أن ظروف مفاوضات فيينا لم تنضج بعد!

…ولا يمكن أن أتمنى شيئًا في هذه الأيام أكثر من أن أكون مخطئاً!

شارك المقال