هكذا يكون الإفتاء لـ “لبنان المقاومة” بديلاً من “لبنان الدولة”

عبدالوهاب بدرخان

“لبنان أقوى من كل التهديدات”… من القائل؟ إنه المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان في خطبة الجمعة الماضية. أما التهديدات المعنيّة فتأتي من العدو الإسرائيلي، ومن “الجواسيس الدوليين” الذين يزورون بيروت في مهمات تهدف الى تجنيب لبنان حرباً مفتوحة يُحتمل أن يشنّها العدو ضدّه لإسكات “جبهة المساندة” التي سخّنها “حزب إيران/ حزب الله” نصرةّ لغزّة وفصائل “المقاومة الإسلامية” فيها. ويأتي تحدّي التهديدات من يقين لدى “الحزب” بأنه بلغ مرتبة “الندّية” النارية لإسرائيل الى حدّ أن يجعل مدنها مدمّرة كـ “غزّة ثانية” إسوة بوعيدها بأن تذيق بيروت هول هذا المصير. لكن التحدّي الخطابي شيء والتحدّي الواقعي شيء آخر لا يريد أحد في لبنان أن يجرّبه، ولا حتى “الحزب” الذي يُمتدح حالياً على “العقلانية” التي يدير بها المواجهة ممتنعاً عن التصعيد، ليس خوفاً وإنّما حرصاً على المكاسب الداخلية التي أحرزها في الهيمنة على لبنان دولةً وشعباً.

بعضٌ من هذه المواجهة يركّز الآن على اقتراحات حملها “الجواسيس” الذين مكّنوا “حزب إيران” من رعاية ترسيم الحدود البحرية مع “الكيان الصهيوني”، لكن المفتي قبلان يحذّر من أن “اللعب بالقرار 1701 لعب بالنار”… ذاك أن المطلوب تنفيذ هذا القرار الذي وافق عليه “الحزب” عام 2006 فقط لوقف الحرب ثم انقلب عليه في اليوم التالي، وواظب على إفراغه من مضمونه طوال سبعة عشر عاماً فيما وازته إسرائيل بانتهاكات متكرّرة متذرّعة بأن “الحزب” هو الذي ينتهكه. والواقع أن الطرفين تشاركا في انتهاك “سيادة الدولة”. وإذ تشكّل الحرب على غزّة والمواجهة من جنوب لبنان فرصة لإحياء القرار 1701 وبالتالي لإحياء الدولة فإن مسعى “الجواسيس” مرفوض من جانب “الحزب” أولاً لأن المواجهة التي يخوضها جزءٌ من استراتيجية إيرانية لا يستطيع مخالفتها، وثانياً – الأهمّ – لأن الانسحاب الى شمال نهر الليطاني (بموجب القرار الدولي) يعني انهاء نشاط “المقاومة” في التماس مع العدو، وثالثاً لأن هذا يعني عودة الدولة كما يريدها المجتمع الدولي لا كما تريدها إيران.

لذلك يقول المفتي الجعفري إن “لبنان وكيانه واستقلاله وسيادته تدور مدار المقاومة ومعركتها السيادية”… أي أنه يبلغ “الجواسيس” الأميركيين والفرنسيين أن لبنان – “الدولة” التي يعرفونها لم يعد موجوداً وأن ما يوجد هنا هو لبنان – “الحزب”/ “المقاومة”، بل يزيد أن “حرب المقاومة” هي “حرب لبنان”، فهل هي كذلك فعلاً أم أن “الحزب” يرغم لبنان عليها؟ ويضيف أن “انتصارها انتصارٌ للبنان”، فهل هناك انتصار في تبادل القصف وما استتبعه من ضحايا كان ينبغي حقن دمائهم ومن أضرار تزيد من أخطار الأزمة الداخلية في بلد مفلس ومنهك؟ من الواضح أن الدولة لم تقرّر الحرب ولم تردها، والجيش لا يشارك فيها، والغالبية العظمى من الشعب اللبناني على اختلاف انتماءاته لا تؤيّدها أو تدعمها، أما التضامن الأهلي مع غزّة فهو عفويٌ وطبيعي، ومن الأَولى أن يكون وفقاً لقدرة البلد (كما تبدّى في كل البلدان العربية) وليس مصادراً لمصلحة قوّة إقليمية أو في سياق استراتيجية إيرانية مستوردة.

خطبة المفتي مناسبة لفهم ما يجري في “عقل الممانعة”، إذ يعود الى “معادلة الجيش والشعب والمقاومة” ويعتبرها “ضمانة وجودية للبنان وسيادته”. وهي أيضاً مناسبة أخرى للثبات في مربّع “التخوين” كما في قوله إن “الحياد (حيال) ما يجري على غزّة خيانة عظمى”، وبذلك يعود الى معركته (ومعركة “الحزب”) مع بكركي في شأن “حياد لبنان” الذي يكرّر أنه “خيانة عظمى” ولا يراه سوى صنو أو محاباة لـ “الهيمنة الصهيونية الإقليمية” التي قرّر أنها “انتهت وإلى الأبد”… لن يجد المفتي في لبنان من يخالفه في هذا التمنّي – نهاية الهيمنة الصهيونية – لكنه سيجد من ينبهه على أن الهيمنة الإيرانية ينبغي أن تنتهي أيضاً، فالهيمنتان تساوتا في تنافسهما على تخريب المنطقة العربية، ولا مصير لهما سوى الانكفاء والزوال.

أما العودة الى الثلاثية “الذهبية”، كما يصفها “الحزب”، أي “معادلة الجيش والشعب والمقاومة”، فقد تآكلت وتهرّأت وهزلت بسبب ممارسات “الحزب” نفسه. لا يخطئنّ أحد بالاعتقاد أن معارضي الحرب اللبنانيين بلغوا من الدناءة حدّ عدم تقدير “شهادة” من قضوا بالقصف المعادي أو عدم احترام دمائهم، لكن لا احترام للقيادة التي رمت بهم الى الموت لأهداف تخصّ من يديرونها. لا علاقة للاحترام الحقيقي والعفوي لأرواح الشهداء بتلك “الثلاثية”، فعن أي “معادلة” يجري الحديث ويتكرّر من دون الاعتراف بالواقع المرئي والمسموع والمعاش، واستطراداً عن أي “ضمانة وجودية للبنان وسيادته” نتحدّث، هل هي تلك التي قمعت “ثورة” اللبنانيين “نصرةً” للمنظومة التي سرقت البلد مقابل ولائها الكاذب لـ “المقاومة”، أم أنها تلك التي استدرجت تدمير البيوت وإحراق الحقول في قرى الجنوب وبلداته بادّعاء “نصرة غزّة” ومساندتها؟ بات معروفاً أن تلك “المعادلة” مفروضة افتراضياً بالقوّة والترهيب ولم تعد موجودة إلا في مخيّلات من يثرثرون بها.

يطالب المفتي قبلان “جماعة الحكومة اللبنانية”، وكأن “جماعته” غير مشاركة فيها أو متبرّئة منها، بإنجاز ملفات رئيسة وأساسية ومنها “ملف النزوح” (أي نزوح، الجنوبي أم السوري؟) “لأن البلد يعيش أنفاسه الأخيرة”، كما يقول، متناسياً أن “الحزب” يعطّل الدولة مستخدماً “مراعاة” حليف أثبت حقارته في الإساءة الى مكانة الحكومة وشلّ عملها. وإذ يعرّج المفتي على الشأن الرئاسي فإنه ينذر “من يعوّل على واشنطن” بأن “واشنطن لا تريد رئيساً للبنان”، وقد يكون ذلك صحيحاً، لكن الحقيقة الكاملة التي يراها اللبنانيون تؤكّد أن “الحزب” هو الذي يمنع انتخاب رئيس جديد ما لم يكن “زلمته”. وفي الانتظار ينصح المفتي بما هو قائم فعلاً أي بما يفعله “الحزب”، وهو “أن نتدبّر وظائفنا السيادية ومواقعنا الدستورية والحكومية ومراكزنا الأمنية”، مبرّراً ذلك بـ “منع اللعبة الدولية في البلد” و”حفظ دور الدولة” ومؤسساتِها ووظيفتها الأمنية والاجتماعية “حتى لا يصبح لبنان في خبر كان”… ويمكن ترجمة ذلك وبتأمين استمرار “اللعبة الإيرانية” المستفيدة من اللعبة الدولية والمتناغمة مع “اللعبة الإسرائيلية”، وبالعمل على استكمال سيطرة “الحزب” على الدولة ومؤسساتها ووظيفتها الأمنية والاجتماعية… وبذلك يصبح لبنان فعلاً في “خبر كان”.

شارك المقال