فولك برنادوت… الوسيط الذي قتله السلام

عاصم عبد الرحمن

بعد مرور أكثر من شهرين على العدوان الصهيوني على قطاع غزة وفشل المجتمع الدولي في التوصل إلى إنقاذ ما أمكن من الانسانية المحطمة في فلسطين على مرأى ومسمع من الكون برمته، تبرز الحاجة إلى وساطات سلام أو أقله تهدئة أحوج ما يكون إليها العالم. في هذا السياق تعود بنا الذاكرة إلى الوسيط الأممي الأول في تاريخ منظمة الأمم المتحدة فولك برنادوت وللقضية نفسها الصراع العربي – الاسرائيلي.

تنصُّ الفقرة 1 من القرار رقم 194 الصادر عن الأمم المتحدة بتاريخ 11 كانون الأول 1948 على ما يلي: “تعرب الجمعية العامة للأمم المتحدة عن عميق تقديرها للذي تمَّ بفضل المساعي الحميدة المبذولة من وسيط الأمم المتحدة الراحل في سبيل تعزيز تسوية سلمية للحالة المستقبلية في فلسطين، تلك التسوية التي ضحى من أجلها بحياته. وتشكر للوسيط بالوكالة ولموظفيه جهودهم المتواصلة وتفانيهم للواجب في فلسطين”. فمن هو هذا الوسيط الذي طبخ السُّم وكيف أكله؟

الوسيط الأممي الأول

هو الكونت السويدي فولك برنادوت (Folke Bernadotte) ينحدر من العائلة الملكية في السويد وهو حفيد أوسكار الثاني الذي كان ملك السويد والنروج آنذاك. ولد في 2 كانون الثاني 1895 في العاصمة استوكهولم وقُتل في 17 أيلول 1948 في القدس. ديبلوماسي بارع شغل منصب نائب رئيس الصليب الأحمر السويدي وكان ضابطاً في الجيش ورئيساً للحركة الكشفية.

مع انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 ونظراً الى سمعته الطيبة التي عمت أرجاء القارة الأوروبية من خلال عمله في الصليب الأحمر وانغماسه في الشأن الانساني، كُلف فولك برنادوت بنقل رسائل بين ألمانيا ودول الحلفاء حول إمكان استسلام الألمان أمام بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية في مقابل السماح لألمانيا بمحاربة الاتحاد السوفياتي إلا أن الزعيمين البريطاني ونستون تشرشل والأميركي هاري ترومان رفضا العرض فانتهت أولى مهمات الوسيط السويدي.

كان لدى الديبلوماسي الملكي هواجس لا تهدأ حول قضايا الأسرى والمهاجرين، فقد شارك في عمليات تبادل للأسرى خلال الحرب العالمية الثانية فساهم في إنقاذ حوالي 15000 معتقل من المعسكرات النازية من جنسيات متعددة أبرزها: سويدية، أميركية، إنكليزية، فرنسية، صينية بالاضافة إلى أعداد كبيرة من اليهود وذلك ضمن ما سُمي بـ “الحافلات البيضاء” بالشراكة مع الصليب الأحمر والكشافة السويديين.

وعلى أثر انتهاء الانتداب البريطاني وإعلان الصهاينة قيام دولتهم على أرض فلسطين واندلاع الحرب بين العرب واليهود عام 1948، اختارت منظمة الأمم المتحدة فولك برنادوت كأول وسيط دولي لها أوكلت إليه مهمة إيجاد حل للصراع، واستطاع أن يرسي الهدنة الأولى في فلسطين في 11 حزيران 1948 انتهت بعد مساعٍ حثيثة لدى العرب والاسرائيليين بعقد مفاوضات رودوس التي جرت في نهاية العام نفسه في جزيرة رودوس اليونانية وعُرفت لاحقاً باتفاقات الهدنة 1949 وهي مجموعة من اتفاقات هُدَن وُقعت بصورة منفصلة بين العدو الصهيوني من جهة ومصر وسوريا والأردن ولبنان من جهة أخرى أوقفت الحرب العربية – الاسرائيلية التي اندلعت في العام 1948 وحددت خطوط الهدنة بين القوات الاسرائيلية والقوات الأردنية – العراقية والمعروفة باسم “الخط الأخضر”.

مُنح برنادوت وسام “داغ همرشولد” عام 1998 كما أقيم له تمثال نصفي كأول وسيط للأمم المتحدة في الذكرى الـ 50 لاغتياله في 13 تشرين الأول 1998.

مقترحات الكونت حول فلسطين

قدم الوسيط برنادوت عدة اقتراحات للأمم المتحدة لإنهاء الصراع العربي – الاسرائيلي في فلسطين وذلك في 27 حزيران 1948 أبرزها:

  • ينشأ في فلسطين بحدودها التي كانت قائمة أيام الانتداب البريطاني الأصلي عام 1922 (بما فيها شرق الأردن) إتحاد من عضوين أحدهما عربي والآخر يهودي، وذلك بعد موافقة الطرفين اللذين يعنيهما الأمر.
  • تُجرى مفاوضات يساهم فيها الوسيط لتخطيط الحدود بين العضوين على أساس ما يعرضه هذا الوسيط من مقترحات، وحين يتم الاتفاق على النقاط الرئيسة تتولى لجنة خاصة تخطيط الحدود نهائياً.
  • يعمل الاتحاد على تدعيم المصالح الاقتصادية المشتركة وإدارة المنشآت المشتركة وصياغتها بما في ذلك الضرائب والجمارك، والاشراف على المشروعات الانشائية وتنسيق السياسة الخارجية والدفاعية.
  • يكون للاتحاد مجلس مركزي وغير ذلك من الهيئات اللازمة لتصريف شؤونه حسبما يتفق على ذلك عضوا الاتحاد.
  • لكل عضو حق الاشراف على شؤونه الخاصة بما فيها السياسة الخارجية وفقاً لشروط الاتفاقية العامة للاتحاد.
  • تكون الهجرة إلى أراضي كل عضو محدودة بقدرة ذلك العضو على استيعاب المهاجرين، ولأي عضو بعد عامين من إنشاء الاتحاد الحق في أن يطلب من مجلس الاتحاد إعادة النظر في سياسة الهجرة التي يسير عليها العضو الآخر، ووضع نظام يتمشّى والمصالح المشتركة للاتحاد وفي إحالة المشكلة إذا لزم الأمر على المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة، ويجب أن يكون قرار هذا المجلس مستنداً إلى مبدأ الطاقة الاستيعابية وملزماً للعضو الذي تسبب في المشكلة.
  • كل عضو مسؤول عن حماية الحقوق المدنية وحقوق الأقليات، على أن تضمن الأمم المتحدة هذه الحقوق.
  • تقع على عاتق كل عضو مسؤولية حماية الأماكن المقدسة والأبنية والمراكز الدينية، وضمان الحقوق القائمة في هذا الصدد.
  • لسكان فلسطين إذا غادروها بسبب الظروف المترتبة على النزاع القائم الحق في العودة إلى بلادهم من دون قيد واسترجاع ممتلكاتهم.
  • وضع الهجرة اليهودية تحت تنظيم دولي حتى لا تتسبب في زيادة المخاوف العربية.
  • بقاء القدس بأكملها تحت السيادة العربية مع منح الطائفة اليهودية في القدس استقلالاً ذاتياً في إدارة شؤونها الدينية.
  • إضافة بعض التعديلات الحدودية بين العرب واليهود، منها ضم النقب إلى الحدود العربية والجليل إلى الدولة الإسرائيلية.

سُمُّ السلام الذي قتل الوسيط

إنَّ من بين المقترحات التي تقدم بها الوسيط برنادوت من أجل تحقيق السلام في فلسطين ما أثار حفيظة اليهود وجعلت الصحف اليهودية تهاجمه وتحرّض عليه وتنشر أجواء الكراهية ضده، فبقاء القدس بأكملها تحت السيادة العربية وعودة اللاجئين الفلسطينيين الذين فروا من القتال أو طردتهم القوات الصهيونية إلى بيوتهم وبالتالي استعادة ممتلكاتهم ووضع حد لهجرة اليهود، مقترحات دفعت كل من منظمة “أرغون” الصهيونية التي كان يرأسها رئيس الوزراء الاسرائيلي لاحقاً مناحيم بيغن ومنظمة “شتيرن” التي كان يرأسها رئيس الوزراء لاحقاً أيضاً إسحاق شامير إلى اغتيال فولك برنادوت بالاضافة إلى رئيس مراقبي الأمم المتحدة العقيد الفرنسي أندريه بيار سيرو الذي كان يرافقه، حين أطلق ثلاثة أشخاص النار على سيارتهما في القطاع الغربي لمدينة القدس في 17 أيلول 1948.

يقول الكاتب السويدي يوران بورين الذي اهتم بقضية اغتيال برنادوت في كتابه “جريمة اغتيال الوسيط الدولي في فلسطين الكونت برنادوت” إنَّ برنادوت كان يدرك المخاطر التي يعرض نفسه لها، تماماً كما أدركت القيادة الاسرائيلية آنذاك أن برنادوت يشكل تهديداً لوجود إسرائيل بسبب اهتمامه البالغ بقضايا اللجوء، معتبرة أنه سيكافح بقوة من أجل اللاجئين الفلسطينيين فهي مسألة عزيزة على قلبه، وعليه اتفق قبل سفره إلى فلسطين مع زوجته إستيل على جميع إجراءات الجنازة في حال عدم عودته حياً إلى بلاده وهو ما حصل.

مهزلة ما بعد الاغتيال

يقول الكاتب بورين في كتابه إن برنادوت لم يكن يتخيل أن يعمل رئيسه المباشر الأمين العام للأمم المتحدة تريغفيه لي ضده سراً وذلك بالتعاون مع الاسرائيليين الذي كان منحازاً بصورة كاملة إلى جانب إسرائيل ومؤيداً بشدة للصهيونية، لذا لم يكن راضياً عن أداء الكونت السويدي الذي تجاهل قرار تقسيم فلسطين رقم 181 الذي قسمها إلى دولتين يهودية على مساحة 56% من الأراضي العربية وفلسطينية على مساحة 43% منها على أن تخضع كل من القدس وبيت لحم لإدارة دولية.

أحدث اغتيال رجل السلام صدمة مدوية على الصعيد العالمي، لذا كان لا بد من أن تتم محاكمة المتهمين بعملية اغتياله وسوقهم إلى منصة العدالة، وعلى الأثر أوقف أكثر من 250 عضواً من منظمة “شتيرن” التي حُلَّت في إطار مكافحة الارهاب. وفي هذا السياق تلقى الرأس المدبر لعملية اغتيال برنادوت ضمانات من وزير الداخلية الاسرائيلي آنذاك إسحاق غرونباوم بأنه سيُحاكم صورياً لإرضاء الرأي العام الدولي الساخط وبالتالي إسكاته على أن يُعفى عنه لاحقاً. أما الشخصان المتهمان الآخران فقد تمت محاكمتهما بتهمة الانتماء إلى منظمة إرهابية وليس بسبب اغتيال الوسيط الدولي ثم أُطلق سراحهما بعد أسبوعين كما أعفي عن جميع معتقلي منظمة “شتيرن” الـ 250.

أثارت مهزلة محاكمة قَتَلَة الكونت السويدي سخط سلطات بلاده ما دفعها إلى التأخر في الاعتراف بدولة إسرائيل التي اضطرت في نهاية المطاف إلى تقديم الاعتذار للمملكة السويدية حتى طُبعت العلاقات في ما بينهما. أما العائلة المالكة فلا تزال تحافظ على مسافة معينة من إسرائيل بحسب الكاتب السويدي يوران بورين.

على وقع تفاقم الوضع الانساني في غزة نتيجة العدوان الصهيوني المستفرس، حذر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش من أن هذه الحرب قد تؤدي إلى عواقب وخيمة تهدد الأمن والسلم الدوليين، معتبراً أنه يجب تجنب ذلك بأي ثمن وهو ما دفعه إلى المطالبة بتفعيل المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة. خطوة أغضبت وزير الخارجية الاسرائيلي إيلي كوهين فاعتبرها بالاضافة إلى الدعوة لوقف إطلاق النار في غزة تهديداً للسلام العالمي ويشكلان دعماً لـ “منظمة حماس الإرهابية”. كذلك قال مندوب إسرائيل لدى الأمم المتحدة جلعاد إردان إنَّ الأمين العام للأمم المتحدة الذي لا يدين الإرهاب لا يستحق منصبه، كما اعتبره “فاسداً أخلاقياً”.

ضخٌّ إعلامي نفسه أطلقته الصحف الصهيونية قبيل اغتيال الوسيط الدولي للسلام الكونت فولك برنادوت عام 1948 نتيجة تمسكه بالسلام حلَّاً نهائياً للصراع العربي – الاسرائيلي مع إقراره بأولوية حقوق أصحاب الأرض، فهل يتكرر سيناريو اقتلاع حنجرة السلام كي لا تصرخ؟

شارك المقال