معاداة السامية: الكذبة التي أنشأت إسرائيل

عاصم عبد الرحمن

قال السيناتور الأميركي الديموقراطي (الرئيس الحالي) جو بايدن في ثمانينيات القرن الماضي: “إذا نظرنا إلى الشرق الأوسط ولو لم تكن هناك إسرائيل لكان على الولايات المتحدة اختراع إسرائيل لحماية مصالحها في المنطقة… إسرائيل هي أفضل استثمار قمنا به بقيمة 3 مليارات دولار”. مقولةٌ ما تزال تتكرر على لسان بايدن الذي أعاد التأكيد عليها في تل أبيب التي زارها متضامناً إثر اندلاع عدوانها على قطاع غزة، فهل وجود إسرائيل في المنطقة كياني أم وظيفي؟

مفهوم العداء للسامية

معاداة السامية أو كراهية اليهود (Anti-semetism) هو مصطلح يطلق على معاداة اليهودية كمجموعة عرقية ودينية وإثنية. أما الساميون فهم سلالة سام بن نوح. ويقدم اليهود تعريفاً لمعاداة السامية وهو يُستخدم منذ نهاية القرن التاسع للاشارة إلى أي حركة منظمة ضد اليهود أو أي شكل آخر من أشكال العداء لليهود. أما الهولوكوست أو المحرقة فهي تعني الابادة الجماعية تحت مظلة الدولة والقتل ليهود أوروبا من ألمانيا النازية والمتعاونين معها بين عامَيْ 1933 و1945. وقد أعطى الفيلسوف الألماني البريطاني هوستون ستيوارت تشامبرلين قاعدة فلسفية لهذا المفهوم وذلك بوضعه الألمان على قمة البشرية ووضعه اليهود في أدنى سلم البشرية. وقد أدى نشر بروتوكولات حكماء صهيون بعد الحرب العالمية الأولى إلى دعم الاتجاه المعادي للسامية، فقد أظهرت هذه البروتوكولات رغبة يهودية في السيادة العالمية ما أدى إلى إحياء الدعاية المعادية للسامية. وقامت ثورات عنيفة ضد اليهود في المجر عام 1920. وفي الولايات المتحدة دعم هنري فورد الحركة المعادية لليهود معنوياً ومالياً. وفي ألمانيا جعل أدولف هتلر معاداة السامية أحد المبادئ الأساسية لبرنامج حزبه النازي.

نشأة معاداة السامية

يُعتبر الصحافي الألماني ويليام مار أول من استخدم مصطلح معاداة السامية عام 1879 وذلك لتمييز الحركة المضادة لليهود. وبدأت تظهر الكتابات المعادية لليهود في ألمانيا مثل كتابات يوغين دورنغ ضد السيادة اليهودية على الحياة الألمانية والداعية إلى اتخاذ معايير لتصحيح هذا الوضع، وذلك بعدما لقيت هذه الحركة دفعة قوية على يد المستشار الألماني بسمارك.

ونشأت “جمعية معاداة السامية” بعدما تمكنت من جمع 255 ألف توقيع يطالب بطرد اليهود، كما قامت مظاهرات عدة في بعض المدن الألمانية مؤيدة لهذا الاتجاه. وقد رفعت ضد اليهود تهمة القتل الطقوسي (تهمة الدم) التي وجهت اليهم في العصور الوسطى.

تتجلَّى معاداة الساميَّة بطرق عديدة تتراوح بين التعبير عن الكراهية أو التمييز ضد أفراد يهود إلى مذابح منظمة من شرطة الولاية أو حتى الهجمات العسكرية على المجتمعات اليهودية بالكامل. وعلى الرغم من أنَّ المصطلح لم يكن مستخدماً بصورة شائعة حتى القرن التاسع عشر، إلا أنه ينطبق على الحوادث التاريخية المعادية لليهود ومن الأمثلة البارزة على الاضطهاد الذي تعرض له اليهود مجازر راينلاند التي سبقت الحملة الصليبية الأولى عام 1096، مرسوم الطرد من إنكلترا عام 1290، مذابح اليهود الاسبان عام 1391، ملاحقات محاكم التفتيش الاسبانية وطردهم من إسبانيا عام 1492، مجازر القوزاق في أوكرانيا من 1648 إلى 1657، مذابح اليهود العديدة في الامبراطورية الروسية بين عامَيْ 1821 و1906، قضية دريفوس بين عامَيْ 1894 و1906 في فرنسا، المحرقة في أوروبا التي احتلتها ألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية، السياسات السوفياتية المعادية لليهود وغيرها من الوقائع الشاهدة على ما تعرض له اليهود من مجازر أو اضطهاد أو تمييز في العالم الغربي والأوروبي على وجه الخصوص.

الصهيونية ومعاداة السامية

يعتبر ثيودور هارتزل مؤسس الحركة الصهيونية (1897) أن معاداة السامية هي حركة شديدة التعقيد. ويرى في هذه الحركة عناصر قاسية منها التعصب الموروث، المنافسة التجارية العامة، عدم التسامح الديني إلى جانب عنصر الدفاع عن النفس. وهو لا يعتبر المشكلة اليهودية أنها مشكلة اجتماعية أو دينية، حتى وإن أخذت أحياناً هذا الطابع بل هي قومية، ولكي تُحل يجب إثباتها كمسألة سياسية دولية تناقشها أمم العالم المتحضرة وتعالجها.

إنَّ الشعب اليهودي في نظر هارتزل هو شعب واحد مهما اختلفت البلدان التي يعيش فيها والنظم التي يتبعها. وهذا الشعب حاول أن يختلط بالمجتمعات القومية التي عاش فيها، إلى جانب محاولته الحفاظ على تراثه اليهودي وديانته، ولكنه فشل في ذلك لأن الدول التي يعيش فيها لم تسمح له بذلك. ويقول إن من العبث أن يصبح اليهود وطنيين مطيعين لهذه الدول، ومن العبث أيضاً أن يضحي اليهود بالحياة والعتاد من أجل هذه الدول كما يفعل المواطنون. كما أن من العبث أن يحاول اليهود الاسهام في شهرة هذه البلاد ورفع شأنها في العلوم والفنون أو في إثرائها عن طريق التجارة. ففي هذه البلاد – يقول هارتزل – يُعامَل اليهود معاملة الأجانب، فالغالبية هي التي تقرر عادة من هو الأجنبي وتحدد علاقتها به على أساس القوة التي تملكها. ولذلك يقول إن من العبث أن يعلن اليهودي ولاءه لهذه الأمم وطاعته لقوانينها.

والدولة اليهودية التي يدعو إليها هارتزل سوف لا تضر – على حد قوله – بمن تم اندماجهم من اليهود الذين يخشون على أموالهم وحقوقهم التي اكتسبوها في البلاد التي اندمجوا فيها، ويطمئنهم بأن إنشاء الدولة اليهودية سيكون في صالحهم حتى لو لم يهاجروا إليها، وذلك لأنهم سيجدون ملاذاً لهم في أي وقت يتعرضون فيه للخطر أو يفقدون فيه الأمان في البلاد التي يعيشون فيها.

وكان هارتزل يعتقد أن القوى الكبرى يجب أن تعمل من جانبها على مساعدة اليهود في التخلص من العداء للسامية عن طريق إنشاء دولة يتم تهجير اليهود إليها فيتحقق لهذه الدول الخلاص من العنصر اليهودي، وتنتهي بذلك ظاهرة معاداة السامية.

يرى هارتزل أيضاً أن العنصر اليهودي في أي مجتمع من المجتمعات عنصر مثير للاضطراب والتمرد داخل المجتمع الأوروبي، وهذا أمر يتعلق بطبيعة اليهودي، فهو لا يستطيع العيش مع الشعوب الأخرى، وإن عاش فلكي يكون عنصراً مدمراً لقوة هذه الشعوب ومحرّضاً على الثورة وقلب الأوضاع.

وفي هذا السياق لعب هارتزل على حبلين متناقضين، فقام بمراسلة ملوك أوروبا وحكامها وصوَّر لهم أن بقاء اليهود داخل المجتمعات التي يحكمونها ليس في صالح هذه المجتمعات ولا في صالح حكوماتها، ولذا يجب على هذه الحكومات تشجيع فكرة الصهيونية وإنشاء الوطن اليهودي حتى تتخلص من العناصر المناهضة لها. فكان وعد بلفور الذي أطلقه وزير الخارجية البريطاني آنذاك جيمس آرثر بلفور في 2 تشرين الثاني 1917 عبر رسالة بعث بها إلى زعيم الجالية اليهودية في بريطانيا المصرفي ليونيل دي روتشيلد بإنشاء وطن قومي لليهود على أراضي فلسطين المنتدبة على أثر انهيار السلطنة العثمانية.

المسيحيون والمسلمون والسامية

لا يمكن اتهام المسيحيين بمعاداة السامية أو كراهية اليهود بلا أسباب عميقة تعود أصولها إلى التاريخ القديم، ثم إنَّ اليهود كانوا قد قالوا بأنَّ النصارى ليسوا على شيء. فالمسيحيون يتهمون اليهود بصلب السيد المسيح واضطهاد تلاميذه وهم يستندون بذلك الى قول اليهود “دمه علينا وعلى أولادنا”. كما اتهم اليهود بتسميم آبار المسيحيين والتضحية بأطفالهم كقرابين بشرية كذلك سرقة خبز القربان وتدنيسه، وعليه تمَّ طرد معظم اليهود من دول أوروبا الغربية إلى شرق أوروبا ووسطها وبلاد المغرب الغربي وهم اليوم ينتظرون نزول السيد المسيح في فلسطين من أجل قتله كما يتوعدون.

أما معاداة المسلمين للسامية، فقد أدى إعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948 في فلسطين وما رافقها من مجازر وفظائع بحق السكان العرب والمسلمين والمسيحيين على السواء إلى تزايد المشاعر المعادية لليهود عموماً في الدول العربية والاسلامية. واقعٌ استغله الصهاينة حتى الرمق الأخير من أجل الادعاء بأن العرب والمسلمين يعادون السامية مع الاشارة إلى أنَّ معاداة الصهيونية تعني معارضة قيام دولة إسرائيل على الأراضي الفلسطينية التي احتلتها، فالخلط بين مفهومَيْ معاداة السامية والصهيونية هو من أجل تبرير جرائمها وقتل كل مَنْ تسول له نفسه بأن يعارض الاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية أو يواجهه أو يقاومه حتى أن هناك من بين اليهود أنفسهم مَنْ يعارض احتلال فلسطين وإقامة دولة إسرائيل وهم يرغبون في الاندماج في المجتمعات التي يوجدون فيها كأي مكون عرقي أو إثني أو ديني يشكل هذه المجتمعات. من هنا يتبين أن معاداة السامية التي تتلطى خلفها الرغبة الصهيونية في السيطرة والاحتلال عبر القتل والتهجير ما هي إلا مشروع سياسي يهدف إلى إنشاء دولة قومية لليهود عبر شعارات تحريضية وعنصرية في العرق والدين والإثنية.

فلطالما عاش اليهود بين العرب والمسلمين والمسيحيين والدروز في منطقة الشرق الأوسط وبلاد ما بين النهرين وشبه الجزيرة العربية وفي المشرق، مارسوا حرياتهم الدينية وحافظوا على تراثهم وتقلدوا مناصب رفيعة في الحكومات، تاجروا وازدهروا وتنعموا بحياة رغيدة. وحتى يومنا هذا ما يزال الآلاف من اليهود يعيشون في لبنان وسوريا وتركيا وإيران والمغرب وتونس وغيرها إلا أن للصهيونية كلاماً آخر.

الولايات المتحدة وإسرائيل ومعاداة الصهيونية

يشير مصطلح معاداة الصهيونية إلى رفض ومعارضة قيام دولة إسرائيل على الأراضي الفلسطينية التي تحتلها الميليشيات الصهيونية منذ العام 1948. فمعاداة السامية التي تعود جذورها إلى ألمانيا وروسيا ومعظم دول القارة العجوز كذبة يحلو للصهاينة نشرها وتالياً تصديقها لممارسة التجييش العنصري وحشد يهود العالم من أجل الهجرة إلى إسرائيل وقيام الدولة العبرية على كامل الأراضي الفلسطينية، وهي بارتداء ثوب المظلومية بمعاداة العالم لها تحاول كسب الرأي العام العالمي بالاضافة إلى حشد الدعم العسكري على اعتبار أنها بحاجة إلى من يحميها وسط محيط إسلامي وعربي إرهابي على حد زعمها.

ولا تتردد الولايات المتحدة في تقديم مطلق الدعم السياسي والديبلوماسي والعسكري الذي يتراوح بين عامَيْ 1946 و2023 بحسب بيانات الوكالة الأميركية للتنمية الدولية التي ناقضت البيانات الحكومية القائلة بنحو 156 مليار دولار، فهي تقارب نحو 260 مليار دولار معظمها يعود إلى مختلف القطاعات العسكرية والدفاعية لما يجمعهما من أهداف استراتيجية مشتركة.

لقد وجدت الولايات المتحدة في إسرائيل حليفاً يمكن الاعتماد عليه في الشرق الأوسط منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية لمواجهة السوفيات والعرب القوميين والثوريين والثورة النفطية في الخليج العربي وقيام الجمهورية الاسلامية في إيران بالاضافة إلى إثارة النعرات الطائفية والمذهبية وتغذية الخلافات السنية – الشيعية.

ولعل اللوبي الصهيوني المتمدد في دوائر القرار الأميركية يجعل من هذا الدعم مطلقاً ومستمراً مهما تبدلت الادارات الأميركية إذ إنه متجذر في أغوار الدولة العميقة وهو يعمل على إسكات الأصوات التي تنادي بين الحين والآخر بضرورة تقنين المساعدات الأميركية لاسرائيل أو إيقافها وهو ما برز جلياً أثناء عدوانها المستمر على قطاع غزة.

من الواضح أنَّ إسرائيل تلعب دوراً وظيفياً في منطقة الشرق الأوسط بالنيابة عن الولايات المتحدة التي تخجل أحياناً من القيام بما تنفذه إسرائيل من جرائم إبادة وقتل وكراهية بحسب مراقبين. وفي ما يتعلق بمعاداة السامية فكل سكان شبه الجزيرة العربية والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين ساميون، فهل من المنطقي أن يعادي الساميون أنفسهم أم أن اليهود هم فقط ساميون والعرب خدامهم كما يعتقدون؟

شارك المقال