الناصريون ومصطفى الفقي

أحمد عدنان
أحمد عدنان

هجوم شديد شنه الناصريون على السياسي المعروف د. مصطفى الفقي بعد ظهوره في برنامج “الصندوق الأسود” الذي يقدمه الإعلامي الكويتي عمار تقي.

والفقي شخصية اجتماعية لها شأنها في القطر المصري، وسياسياً بالإضافة إلى مسيرته الديبلوماسية المرموقة، تولى في عهد الرئيس حسني مبارك منصب سكرتير رئيس الجمهورية للمعلومات، وتولى كذلك رئاسة لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان المصري (واتهمته المعارضة بأنه وصل إلى البرلمان بتزوير الحزب الوطني في انتخابات 2005)، وبعد عهد الرئيس مبارك كاد أن يصبح أميناً لجامعة الدول العربية، وفي عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي تولى رئاسة مكتبة الإسكندرية.

معرفتي بالفقي الكاتب كانت من خلال مقالاته في صحيفة “الحياة” – قبل إغلاقها – التي كتب فيها دهراً من دون أن تثير مقالاته جدلاً أو نقاشاً أو إعجاباً كبقية مقالاته المنشورة في الصحافة المصرية أو “اندبندنت” العربية، مع استثناء مقالاته التي تتضمن إشادة بأصدقائه أو رثاء لهم.

وفي مرحلة لاحقة قرأت له كتابين: “عرفتهم عن قرب” و”شخصيات على الطريق”. عدد صفحات الكتابين – تقريباً – ٦٨٨ صفحة، ومع ذلك ما خرجت به من الكتابين كمعلومات يمكن اختصاره في صفحة أو صفحتين.

الكتابان غلب عليهما الإنشاء، ويبدو أن شخصية الفقي تحاول إرضاء الجميع فيقع في التناقض أو التدليس إذا أغفلنا بعض الأخطاء التاريخية وأن بعض الشخصيات التي تناولها رآها ولم يعرفها، مثلاً: يصف الرئيس حسني مبارك بأنه وطني وفي موضع آخر يصف نظامه بالمنبطح للولايات المتحدة. ويقول بأنه لا يشك في قومية الملك حسين، وفي موضع آخر يقول بأن والده الملك طلال عزل لأنه قومي عربي في تشكيك بعروبة ووطنية ابنه وخلفه، وحديثه عن الملك طلال “تهليس”، فالملك حسين ذكر في مذكراته “ليس سهلاً أن تكون ملكاً” بأن سبب عزل والده هو مرض انفصام الشخصية، وأكد ذلك خصم الملك حسين الذي لا شك في ناصريته: محمد حسنين هيكل.

“التهليس” في رواية عزل الملك طلال كرره الفقي في “الصندوق الأسود” حين تحدث عن الجاسوس الإسرائيلي الشهير ايلي كوهين، وقال بأنه كان مرشحاً لرئاسة الحكومة في سورية، وهذا غير صحيح، وهذا الادعاء هو من فبركات الصحافة المصرية في الستينيات ضد الرئيس السوري أمين الحافظ بسبب المشاحنات السياسية بين مصر وسورية آنذاك.

الفقي ينتمي الى نوع من الكتاب، يتجنب المواقف الواضحة أو المنهجية، ويستسهل الكتابة والقول، ومقالاته كظهوره التلفزيوني، يروي القصة أو المعلومة وفق الظرف السياسي أو وفق توجهات المنبر المستضيف من دون أن يتورط في الكذب، لذلك هو من نوعية نادرة من الكتاب، من الأفضل أن تتعرف عليه بدلاً من أن تقرأ له، وتأكدت لي هذه الخلاصة حين قابلته في مناسبتين في بيروت، فالفقي الشخص يختلف عن الفقي الكاتب كجاذبية، فإذا حضر لا تريده أن ينصرف، وإذا تكلم لا تريده أن يسكت.

وبناء على ما سبق، تفاجأت من تصريحاته الواضحة في “الصندوق الأسود” عن الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر وحكمه، فالرجل تحدث عن واقعتين خارج الرواية الناصرية عن زعيمها: الأولى عن “شرب” عبدالناصر في منزل نائبه أنور السادات، والثانية أنه في عهد الرئيس مبارك وجدت الدولة مقبرة جماعية مكان السجن الحربي تعود لزمن عبدالناصر، مضيفاً بأن عبدالناصر لم يكن ديموقراطياً بل قامع للحريات، وأن التعذيب وقتل من يخالفونه الرأي من مثالب عهده أو مثالبه. قد يجادل البعض بأنه ربما تكون واقعتا الفقي عن عبدالناصر بعيدتين عن الدقة، لكن تحليله عن عبدالناصر وحكمه هو الدقة بعينها.

تحدث الفقي كذلك عن واقعة تجنيد المخابرات المصرية للممثل عمر الشريف من أجل مرافقة الفنانة اللبنانية نضال الأشقر للوصول إلى والدها رئيس الحزب القومي السوري أسد الأشقر، وهي واقعة ثابتة لأن عمر الشريف تحدث عنها علناً، وعلى الأرجح كان الهدف قتل الأشقر بحكم الخلاف المستعر بين القوميبن السوريين وبين عبدالناصر آنذاك بسبب دولة الوحدة، وليس غريباً على عبدالناصر قتل من يخالفونه سياسياً خارج مصر، كفرج الله الحلو (1959) وكامل مروة (1966). ومن حسن الحظ أشار مصطفى الفقي إلى قتل شهدي عطية في مصر (1960).

ومن كل ما سبق، كان لافتاً أن الناصريين في مصر لم ينزعجوا سوى من “شرب” عبدالناصر، فاندفع الفقي معتذراً بذريعة تناسب شخصيته، أنه ظن أن كلامه خارج التسجيل وأنه نادم أشد الندم، لكن الحزب العربي الديموقراطي الناصري برئاسة الدكتور محمد أبو العلا، رفض اعتذار الفقي عن قصة عبدالناصر والمشروبات الروحية، وأشار رئيس الحزب الناصري إلى أن المخابرات الأميركية أعلنت خلال عهد عبدالناصر، أنّها لم تتمكن من الحصول على ما يدين الرئيس الراحل سواء على مستوى قيادته للدولة أو المستوى الشخصي، فكيف لمصطفى الفقي أن يقول مثل هذه الأقاويل ثم يعتذر؟

الدكتور أبو العلا فاته أن الثقافة الغربية لا تعتبر شرب الخمر حراماً أو عيباً، والأهم من ذلك، لم يبلغنا أبو العلا أين صرحت المخابرات الأميركية بأنها “لم تتمكن من الحصول على ما يدين الرئيس الراحل سواء على مستوى قيادته للدولة أو المستوى الشخصي”، أين البيان الرسمي؟ وفي أي صحيفة أو وسيلة إعلامية نشر؟ وما هو التاريخ؟ ومنذ متى تطلق المخابرات الأميركية وغيرها من الأجهزة الأمنية مثل هذه التصريحات السياسية العلنية؟

بيان الحزب العربي الديموقراطي الناصري، والذي من الطريف قياساً بتاريخ عبدالناصر، أن يكون حزباً ديموقراطياً، يعكس أزمة فكر لا تخص الناصريين وحدهم في منطقتنا، فالسلوك الشخصي للحاكم أمر يخصه تحت سقف القانون، ليس مهماً هل كان يشرب عبدالناصر أو لا، محمد حسنين هيكل قال في كتابه “خريف الغضب” بأن الرئيس أنور السادات كان يشرب الفودكا يومياً ولم يعتبر ذلك مذمة، وأي مطالع للتاريخ المصري يعلم بأن سعد زغلول كان مدمناً للقمار ولم ينتقص ذلك من زعامته، المهم هو السؤال: كيف تسلم عبدالناصر مصر من الملك فاروق ثم من الرئيس محمد نجيب وكيف سلمها لخلفه أنور السادات؟ الاجابة على هذا السؤال ستقدم القراءة الموضوعية لحكم عبدالناصر، وبعض كوارث عبدالناصر ذكرها مصطفى الفقي في مقابلته، والتي من المذهل حقاً، أن لا ينزعج الحزب العربي الناصري من حديث الفقي عنها، كالمقبرة الجماعية ووأد الديموقراطية وانحراف المخابرات! ويمكننا الإضافة – غير احتلال سيناء في عهده – بأن رمز الوحدة العربية المأمولة فشل في الحفاظ على الوحدة مع السودان، وفشل في إدارة الوحدة مع سورية، وبسبب محبته ومجاملته لصديقه “المشير” عبدالحكيم عامر دفع المصريون والعرب – ويدفعون إلى اليوم وغداً – أثماناً فادحة، ولا أنسى أنه في عهد الملكية لم تكن مصر تعترف بدولة ليس لها دستور، بل وأوفدت إلى بعض دول الخليج فقهاء دستوريين لكتابة دساتير تلك الدول، أي أن مصر الملكية كانت تصدر الدساتير والقانون، بينما مصر عبدالناصر صدرت – بشكل مباشر أو غير مباشر – الانقلابات العسكرية، ولم ينحدر العرب إلا تحت الحكم العسكري أو الحكم الديني.

ختاماً، في أواخر عهد الرئيس مبارك قال مصطفى الفقي في صحيفة “المصري اليوم” إنه لن يأتي أي رئيس قادم إلى مصر إلا بموافقة أميركية وعدم اعتراض إسرائيلي، وأثار هذا التصريح آنذاك عاصفة سياسية فجرها تعليق محمد حسنين هيكل على تصريحات الفقي، وكان رد الفقي مذهلاً وفق صحيفة “القدس العربي”، إذ قام بالدعاء على هيكل واتهمه بتصفية الحسابات! (وعندما توفى هيكل قال الفقي بأنه شخصية استثنائية شديدة الذكاء وأنه – أي الفقي – تربى على مقالاته!). واستحضار هذه الواقعة يتشابه مع زوبعة “الصندوق الأسود”، فالدكتور الفقي ليس شخصية فارغة، وأوضح الأدلة على ذلك كتابه “الأقباط في السياسة المصرية : دور مكرم عبيد في الحركة الوطنية” إضافة إلى تصريحاته التي ينفيها أو يتملص منها، لكن نموذج المثقف الخائف أو الرمادي، إما طمعاً في مغنم أو خوفاً من مغرم، أحد مثالب حكم عبدالناصر وجمهوريته العسكرية التي استبدت بدنيا العرب.

شارك المقال