“الحزب”… العالم لا يدور حول باسيل!

أنطوني جعجع

أما وقد انتهى عهد ميشال عون عملياً، لا بد من سؤال جوهري: هل تحول جبران باسيل في أوساط “حزب الله” الى تركة ثقيلة لا يستطيع تحملها في مكان ولا يستطيع التخلي عنها في مكان آخر؟

السؤال ليس جديداً، فهو طرح مرات عدة من قبل، لكنه هذه المرة يتخذ شكلاً آخر، لا يشبه ذلك الشكل الذي تكَّون حوله “اتفاق مار مخايل” ولا تلك الحاجة التي كان ينشدها حسن نصر الله للخروج من العزلة التي عاناها بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري.

ما تغير في الواقع، أن نصر الله لم يعد كما كان في العام ٢٠٠٥، وميشال عون لم يعد زعيماً مسيحياً استقطابياً كما كان بعد عودته من فرنسا، وباسيل لم يعد كما كان في قصر بعبدا رئيساً غير منتخب على مدى ست سنوات.

وما تغير أيضاً، أن نصر الله لم يعد في حاجة الى غطاء محلي من “التيار الوطني الحر” وحسب بل من من جميع اللبنانيين، المسيحيون منهم والمسلمون، حتى هؤلاء الأكثر مغالاة في المعارضة سواء جاهر بذلك أو تكابر، في وقت يخوض في الجنوب والمنطقة معركة تتخذ هذه المرة شكل المعركة “الوجودية” لا الردعية، معتبراً أن أكثر ما يحتاج اليه في الوقت الراهن أيضاً هو صمودٌ في غزة لا يُسقط “حماس” من محور الممانعة، وضغط أميركي ودولي يمنع اسرائيل من تدمير لبنان أو من محاولة اجتياحه مجدداً.

لكن الأمر الذي لم يتغير، هو أن باسيل لا يزال يعتبر نفسه “الممثل الأقوى” للمسيحيين، وأن “حزب الله” لا يزال مديناً له بغطاءات وتضحيات ثمينة ومؤلمة يجب أن تحصل في المقابل على مكاسب جوهرية أبرزها الاعتماد عليه في كل كباشاته القائمة والمستجدة مع كل ما يعرقل طموحاته السياسية عموماً والرئاسية خصوصاً، والقتال عنه أو معه أو من أجله في مواجهة أي خصم داخلي أو خارجي.

ويجمع الكثير في أوساط الضاحية الجنوبية، على أن باسيل لا ولم يقرأ جيداً ما يواجهه “حزب الله” بعد “طوفان الأقصى”، لا بل ما ينتظره من تحديات ومخاطر شأنه في ذلك شأن كل المنضوين تحت “لواء الممانعة” في حال مضت اسرائيل في حرب غزة حتى النهاية، أو في حال توسعت لتشمل جبهة تمتد من لبنان الى اليمن مروراً بسوريا والعراق وصولاً هذه المرة ربما الى ايران نفسها.

ويرى هؤلاء أن “الصهر” لا يزال يعتقد أن الحاجة اليه، أو على الأقل الى ما يمثله لدى المسيحيين، أمر حصري لا ينافسه عليه أو يشاركه فيه أي طرف آخر، وهو بذلك يبدي “دلالاً” بدأ يثير موجة من الاستياء لدى أصحاب الحل والربط في “المقاومة الاسلامية”، وفي مقدمهم حسن نصر الله الذي يؤمن في الوقت الحاضر بأن وضعه الداخلي لا يحتمل أي عداءات أو توترات أو حتى طعنات، أو خوض أي معارك سياسية جانبية من أجل أحد سواء كان جبران باسيل أو حتى ميشال عون.

وينطلق هؤلاء في موقفهم هذا من اقتناع شبه راسخ بأن المرحلة الحالية هي مرحلة انفتاح ومساومات ومسايرات يتوخى منها “حزب الله” الحد من أعدائه أو على الأقل الحد من عداواتهم، وحماية ظهره من الشعب هذه المرة بعدما منعه باسيل من انتخاب الرئيس الذي كان يراهن عليه لحماية ظهره، أي سليمان فرنجية.

وليس سراً أن “حزب الله” الذي يعرف أن الجبهة التي فتحها في الجنوب، أثارت ولا تزال تثير انتقادات الكثير من اللبنانيين، بات يرى في أي موقف سياسي أو شعبي أو اعلامي يصب في خانة العداء مع اسرائيل، غطاء أكثر فاعلية وتأثيراً من أي موقف يتخذه “التيار الوطني الحر”، وهو ما برز في حملة الثناء التي أطلقها الشارع الشيعي حيال مواقف وليد جنبلاط ويمنى الجميل، اضافة الى وسائل الاعلام المحسوبة تاريخياً على الوسط المسيحي.

وانطلاقاً من هذه الأجواء، نجح خيار التمديد لقائد الجيش جوزيف عون، على الرغم من أن “حزب الله” كان يعرف تماماً أن هذا الخيار لن يكون الا هزيمة ساحقة وانتقاصاً من رصيد جبران باسيل وموقع ميشال عون معاً، معتبراً أنه لا يملك ترف الوقت ولا ترف المسايرات لدى طرف واحد فقط، ولا حتى تجيير قوة السلاح في معارك داخلية ليست في محلها.

وكشف مصدر قريب من محور الممانعة، أن “حزب الله” الذي يتلقى ضربات موجعة في الجنوب، يعود معظمها الى خروق أمنية مقلقة، ليس مستعداً لتلقي خروق سياسية مقلقة أيضاً تأتيه من خطوطه الخلفية، مشيراً الى أنه يتلقى أنباء “غير مشجعة” من أنفاق غزة التي يخشى ألا تتمكن من الصمود أكثر كلما طال أمد المعارك التي يصر عليها في شكل خطير مجلس الحرب الاسرائيلي.

وأضاف: ان “حزب الله” ومن خلاله ايران يقاتل على أربع جبهات دفعة واحدة، الأولى “الهائية” في الجنوب، والثانية “استفزازية” في البحر الأحمر، والثالثة “تحرشية” في العراق وسوريا، والرابعة “تسووية” تحتمل تقديم تنازلات ما من هنا وهناك، وفي مقدمها ما جرى أخيراً في مجلس النواب الذي مرر التمديد لقائد الجيش في خطوة ترضي الأميركيين والمجتمعين العربي والدولي، اضافة الى الغالبية المسيحية التي يقودها البطريرك بشارة الراعي.

وذهبت مصادر ديبلوماسية غربية بعيداً في تحليلها الى حد القول: إن ايران لا تريد دخول الحرب التي تعرف هذه المرة أنها ستكون أشبه بتلك التي تعرض لها صدام حسين عندما هدد أمن اسرائيل والمنطقة، أي الحرب مع أميركا، وأن كل ما تتوخاه من جبهتي الجنوب واليمن، تراكم ضغط عسكري تأمل في أن يؤدي الى وقف اطلاق النار في غزة في شكل دائم هذه المرة وليس على مراحل.

وما يعزز هذا الانطباع، تلك التصاريح التي تصدر من حركة “حماس” و”حزب الله” و”الحشد الشعبي” والحوثيين والداعية الى وقف القتال في غزة كشرط لتهدئة الجبهات الأخرى، وهي تصاريح ما كانت لتطلق دفعة واحدة لولا التقارير المقلقة التي تصدر من القطاع المدمر الذي بدأ يشعر بأنه يخوض حرباً غير مضمونة مع حكومة مجنونة لا يردعها أي ضغط حتى لو جاء شكلياً في السياسة ودموياً على الأرض.

هذه الأجواء والوقائع دفعت “حزب الله” الى عدم التفريط بنظرية “الشعب والجيش والمقاومة”، خصوصاً بعدما لمس نقمة شعبية حيال ما يجري على حدوده الجنوبية، وبعدما لمس امتعاضاً في صفوف الجيش والضباط حيال ما يتعرض له قائدهم، و”المقاومة” التي وجدت نفسها بين نارين، نار تأتيها من اسرائيل ونار تأتيها، حتى من بيئتها الغارقة في حربين نازفتين في كل من لبنان وسوريا والخائبة من الموقف الايراني المتردد والمتفرج.

وحيال هذه الأجواء، وجد “حزب الله” نفسه بين خيارين: اما التمسك بتحالف مع جبران باسيل لا يقدم ولا يؤخر في معركته الحالية مع اسرائيل، واما نزع الألغام الخلفية التي يمكن أن يفجرها الأميركيون من جهة و”السياديون” من جهة أخرى.

في اختصار، ما حدث في مجلس النواب لم يكن من صنع تقاطع وطني متنوع كما يروّج البعض، بل كان معبراً خفياً سمح به “حزب الله” للوصول الى أرضية هادئة لا رمال متحركة فيها، ومفصلاً لم يقرأه جبران باسيل جيداً فلم “يحفظ رأسه عند تغيير الدول” ولم يحفظ هيبة تياره لدى أهل البيت وبيوت الأعداء معاً.

وفي اختصار أيضاً، لا يبدو “حزب الله” في وارد الحفاظ على رأس باسيل الذي منعه من ايصال من يريد الى رأس الدولة، فكان لا بد من “انذار أصفر” يأمل مصدر ممانع “في أن يراه باسيل هذه المرة كما يراه رجال الدولة لا كما يراه عميانها”.

شارك المقال