“النكد” لا يبني دولة!

صلاح تقي الدين

“إن الله إذا غضب على قوم جعل شتاهم صيفًا وصيفهم شتاءً”، هو قول مأثور وينطبق على واقع لبنان حالياً إذ إن غضب الله على اللبنانيين جعلهم يرزحون تحت رحمة مسؤولين لا يملكون من حس المسؤولية مقدار غبرة، ولا يقيمون للمصلحة الوطنية العليا أي اعتبار بل جل ما يفكرون فيه هو كيفية استمرارهم على كراسيهم التي حملهم الشعب إليها، والأسوأ أنهم يتعاملون بنكد وحقد دفين ويستغلون أي مناسبة كانت لإظهارها إلى العلن، ومع هذه العقلية وهذا الأداء لا يمكن بناء دولة ولا قيامة مؤسسات.

لست ممن يسوقون لمقولة “كلن يعني كلن” فلكل قاعدة استثناء وقلة هم الذين شذوا عن الأداء “النكدي” والعقلية “الحاقدة” في العمل السياسي، ولعل أبرز هؤلاء الزعيم الدرزي وليد جنبلاط الذي على الرغم من إدراكه ووعيه الكامل لتورط النظام السوري في اغتيال والده المعلم الراحل كمال جنبلاط، إلا أن تقديمه المصلحة الوطنية العليا دفعه إلى “دفن” حقده على القتلة واختار التعاون معهم في سبيل استمرار لبنان في مساره العربي الطبيعي، قبل أن ينقلب عليهم بعد انقلابهم هم أنفسهم على المسار القومي العربي وارتكابهم الفظائع بحق شعبهم وبلدهم.

وكذلك الأمر يمكن قياسه على تعامل الرئيس السابق للحكومة سعد الحريري مع قتلة والده الرئيس الشهيد رفيق الحريري، فهو وقبل وقت كثير من حكم المحكمة الدولية كان مدركاً للجهة التي أصدرت أمر اغتيال الرئيس الشهيد والجهة التي نفّذت الأمر، غير أنه شاركهم في الحكومات التي ترأسها لا بل وذهب إلى قلب العاصمة السورية لكي يصافح من هدّد علناً رفيق الحريري بـ”طربقة” البلد على رأسه إن خالفه، مستعيداً مقولة الشهيد “ما في حدن أكبر من بلده” إذ ان المصلحة الوطنية العليا تأتي أولاً.

لكن الحال ليست كذلك مع الفريق الذي يطلق على نفسه لقب “تيار الاصلاح والتغيير”، فهذا التيار الذي وصل إلى السلطة نتيجة “وفاء” حليفه الأمين العام لـ “حزب الله” السيد حسن نصر الله الذي سلّمه البلد طيلة ست سنوات، عمل انطلاقاً من قاعدة “الثأر” من خصومه السياسيين، وانقلب على جميع التفاهمات التي كان أبرمها سابقاً “مصلحياً” واتفاق معراب خير دليل على ذلك، كما لم يتوانَ عن تكليف “جرصته” القانونية صياغة الدراسات الدستورية والقانونية لتأتي على قياسه بغية التحكم بمفاصل الدولة من خلال الوظائف العامة في جميع الأسلاك الادارية والعسكرية والأمنية والمالية والاقتصادية وفوق ذلك كله القضائية.

لا يختلف اثنان على أن السياسة التي انتهجها العهد القوي السابق أضرّت به أولاً وأدت إلى انهيار بنيان الدولة وتفكيك مؤسساتها بدءاً من التدخل السافر في شؤون القضاء، و”حقده” الأعمى على الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة، وصولاً إلى محاولات “الصهر الميمون” تشويه صورة وسمعة كل “ماروني” يمكن أن ينافسه على طريق الوصول إلى كرسي بعبدا.

لست في معرض الدفاع عن أي من الشخصيات المارونية التي استهدفها النائب جبران باسيل في هجماته عليها، لكن عندما وصل الأمر إلى الفراغ المحتمل في موقع قيادة الجيش، أصبحت المسألة غير صائبة ولا محمودة.

لبنان في حالة حرب علنية ولو غير معلنة. فما يجري على حدود لبنان الجنوبية يستدعي الاستنفار الكامل سياسياً واجتماعياً واقتصادياً لمواجهة احتمالات “انخراط” الحزب في حرب شاملة يكون فيها الجيش معنياً مباشرة إذ ان من صميم واجباته الدفاع عن حدود الوطن وأرضه وأمنه، فهل كان من الجائز استبدال القيادة “المختبرة” في هذه المرحلة الحرجة؟

ربما يكون النائب باسيل متمسكاً عن قناعة برأيه القائل بعدم القبول بالتمديد أو التجديد أو حتى السماح لحكومة تصريف الأعمال بالتعيين، وهذه مسألة دستورية فيها الكثير من الاجتهادات والتأويلات التي ليس لها مكان في هذا المقال، لكن أن يكون هذا الموقف “المبدئي” سبباً في انفراط عقد المؤسسة الأمنية الأم الضامنة لاستقرار البلد وأمنه، فعندها لا يمكن أن يكون باسيل محقاً.

وعلى الرغم من أن قانون الدفاع ينص صراحة على أن من يتولى بالانابة قيادة الجيش في حال غياب قائده هو رئيس الأركان، لا يجوز الذهاب نحو تفسيرات دستورية “على المقاس” لكي يتولى الضابط الأعلى رتبة القيادة عند تقاعد العماد جوزيف عون في 10 كانون الثاني المقبل، أو أن يصار إلى تعيين قائد بديل من حكومة يعتبرها فاقدة للشرعية، لكنها تكون عكس ذلك إن هي أقدمت على تعيين قائد يواليه فيضرب عصفورين بحجر واحد، يطيح عون ويعين البديل المناصر له وينقلب على رأيه بعدم شرعية الحكومة.

لكن الرئيس نبيه بري، الذي قاد ويقود مجلس النواب منذ ثلاثة عقود ونيف، والآتي إلى العمل البرلماني من الحياة القانونية، لا يمكن أن يفوّت فرصة إنقاذ المؤسسة العسكرية من الفراغ المحتمل، فكان بالمرصاد وأدار بحنكة لعبة تمرير قانون “رفع سن تقاعد” الضباط من رتبتي لواء وعماد سنة واحدة فأنقذ المؤسسة وأنقذ البلد على الرغم من احتمال أن لا يكون موقفه السياسي مؤيداً لهذه الخطوة، غير أن المصلحة الوطنية العليا كانت نبراسه وتصرّف على هذا الأساس.

لكن “النكد” انتقل اليوم إلى موقع رئاسة الأركان، والحجة المنقولة عن النائب باسيل، ولست أتبناها، أنه لا يوافق على تعيين رئيس للأركان لكي لا يتيح لقائد الجيش أن يسافر إلى الخارج في مهمات يعتبر باسيل أنها تزيد من فرصه الرئاسية، فهذا أمر غير مقبول إطلاقاً.

لو استمرت حجة باسيل في رفض قيام حكومة تصريف الأعمال بأي تعيينات، لكان بالامكان مجاراته في موقفه المبدئي، لكن أن يقبل قبل التمديد بأن تعيّن قائداً جديداً للجيش ثم يرفض أن تعيّن رئيساً للأركان، فهذا هو النكد بعينه.

لم يربح أي فريق سياسي نقاطاً في التمديد لقائد الجيش، كما لم يخسر أي فريق مقابل هذه النقاط، الرابح الأول والأخير كان استقرار مؤسسة الجيش والبلد، وإن كان من نصيحة توجه إلى باسيل في هذا المجال، فليرتفع إلى مصاف رجال الدولة ويختار أن يكون معارضاً للعهد الجديد مهما كان اسم الرئيس، لا بل أن يكون رأس هذه المعارضة ففي ذلك ربح أكيد له واستعادة لقواعد شعبية خسرها نتيجة مواقف لم تهضمها ولم تقبل بها، وأن يسمح بانعقاد المجلس النيابي في جلسات متتالية لانتخاب رئيس عتيد للجمهورية يقوم بتكليف شخصية سنية تشكيل حكومة يكون أعضاؤها من أصحاب الكفاءة والسمعة النظيفة لتضع برنامجاً للانقاذ ينشل لبنان واللبنانيين من الهوة العميقة التي انحدروا إليها ويكون هو أيضاً من المنقذين.

شارك المقال