ملف انفجار المرفأ يلقي بظلاله على قانون استقلالية القضاء

محمد شمس الدين

يدخل لبنان سنة جديدة، ولا يزال التحقيق في انفجار مرفأ بيروت معلقاً، منذ الخطوة الجدلية التي اتخذها المحقق العدلي القاضي طارق البيطار في كانون الثاني من بداية العام، عندما قدم اجتهاداً، عاد به إلى تسلم التحقيقات، إلا أن هذا الاجتهاد لم يقنع النيابة العامة التمييزية التي اعتبرت في حينها أنه “منعدم الوجود”، الأمر الذي رد عليه البيطار برفع دعوى على مدعي عام التمييز القاضي غسان عويدات نفسه، فرد الأخير باستدعائه على خلفية “اغتصاب سلطة”، ولكن البيطار رفض المثول وتدخل مجلس القضاء الأعلى وعيّن رئيسه القاضي سهيل عبود القاضي حبيب رزق الله للنظر في وضع البيطار إن كان مغتصب سلطة أم لا، ومنذ ذلك الوقت لا يزال الملف نائماً في العدلية، ولم يطرأ أي تطور على القضية خلال السنة كلها، بل ان القاضي عويدات يحال على التقاعد في شباط المقبل، ومن غير المعروف مصير الدعاوى بينه وبين البيطار.

ملف انفجار المرفأ وحده، يدفع الى المطالبة مجدداً بقانون لاستقلالية القضاء، إلا أن المشروع سحب في آخر جلسة تشريعية بسبب الخلافات المستمرة حول بنوده، لا سيما لجهة انتخاب أعضاء مجلس القضاء الأعلى أو تعيينهم، بحيث يرى بعض القوى السياسية ويؤيده مجلس القضاء الأعلى بوجوب انتخاب جميع أعضاء المجلس وعدم تعيين أي منهم من السلطة السياسية، بينما تعتبر قوى سياسية أخرى أن انفجار المرفأ هو أهم سبب لرفض هذا المبدأ، بحيث ترى أن الملف أُخذ بالشعبوية لا بالتحقيقات، وأصبح القضاة لا يجرؤون على البت في أي قرار خوفاً من رد فعل الشارع، وهذا الأمر من شأنه أن يضرب العدالة، وهو ما حصل في ملف انفجار المرفأ، ولذلك يجب أن يكون هناك نوع من الرقابة على عمل القضاء، كي لا يدخل القاضي في لعبة “ما يطلبه الجمهور”.

ويشرح مصدر مقرب من جهة سياسية، ترفض أن ينتخب كل أعضاء مجلس القضاء الأعلى، أن “انتخاب كل القضاة أو رؤساء الهيئات الاقتصادية، لا يحصل في أعتى الدول ديموقراطية، ويتمتع قضاؤها باستقلالية تامة. فمثلاً في الولايات المتحدة الأميركية يعيّن رئيس الجمهورية، بعد موافقة مجلس الشيوخ، قضاة المحكمة العليا الأميركية، وهي أعلى سلطة قضائية في البلاد، وهذا الأمر لم يؤدِ الى ارتهان أي من القضاة إلى أي من رؤساء الجمهورية، بل إن أحد القضاة الذين عيّنهم الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب لاحقه قضائياً لاحقاً”.

ويشير المصدر الى أن “فرنسا التي من المفترض أن دستورنا وقوانيننا مستوحاة منها، يرأس رئيسها بنفسه المجلس الأعلى للقضاء، ويعيّن في المجلس 3 أعضاء من غير القضاة. وفي سويسرا، يختار البرلمان الفديرالي قضاة المحكمة الفديرالية العليا، وهي أعلى الهيئات القضائية في البلاد”.

ويضيف المصدر: “لا نقول انه يجب تعيين جميع القضاة من السلطة السياسية، ولكن يجب أن يكون هناك مكان ما في الوسط بين التعيين والانتخاب، وإلا يصبح القضاء مسابقة شعبوية لا محكمة عدلية، وهذا ما ظهر تحديداً في ملف انفجار المرفأ، بحيث أصبح القضاة يريدون الوقوف على خاطر الجمهور بسبب هول الجريمة، ولكن هذا لا يحقق العدالة، بل من المؤكد أنه سيؤدي إلى ظلم، ولذلك يجب أن يكون هناك ضابط في مكان ما، كي لا يتحول القضاء إلى سلطة تتسلط على السلطات الثلاث، وفي أحسن الأحوال ستتسبب في شلل جديد في البلد، كما كان الحال في التجاذبات بين الحكومة ورئيس الجمهورية خلال العهد الأخير”.

يبدو أن مشروع قانون استقلالية القضاء أمامه طريق طويل وشاق قبل إقراره، ولن يهم فعلياً كيف يتم اختيار قضاة مجلس القضاء الأعلى، طالما أن العقلية في لبنان مرتهنة، بغض النظر عن النصوص، ففي الكثير من الدول تعين السلطة السياسية المناصب، إلا أن المعينين لا يعتبرون أنفسهم موظفين عند السلطة السياسية، بل لدى الشعب ويديرون باسمه، وهو أمر يمنحهم استقلالية تامة، تمكنهم من أداء وظيفتهم كما يجب، لا كما يهوى السياسي، وهذه العقلية غير موجودة في لبنان.

وفي السنوات الأخيرة أصبح بعض المسؤولين يتخذ قراراته وفق أهواء شعبوية، لا من أجل المصلحة العامة، ولعل ما حصل خلال “ثورة 17 تشرين” أكبر مثال على ذلك، وهو أمر تسلل أيضاً إلى القضاء، حيث كان يقوم متظاهرون بمحاصرة قاضٍ ما إن كان في منزله أو في عمله، من أجل الضغط على قراره لأهوائهم، الأمر الذي من شأنه أن يضرب العدالة. ولذلك، إن كان يجب انتخاب القضاة بصورة كاملة من دون وجود أي يد سياسية في الأمر، ينبغي أن يتضمن مشروع القانون بنداً يمنع القاضي من السير وراء الشعبوية إن كان من أجل منصب أو خوفاً من رد فعل الشارع، وإلا سيشهد البلد سلطة جديدة تسهم في شلل المؤسسات.

شارك المقال