هؤلاء أيضاً لبنانيون

الراجح
الراجح

سنة 1904، أي بعد سبع سنوات فقط من عقد المؤتمر الصهيوني العالمي في مدينة بال في سويسرا، أطلق نجيب العازوري، وهو مسيحي لبناني من رواد الفكر القومي العربي، مقولته النّبوئيّة حول وجود حركتين قوميتين في المشرق وهما الصهيونية والقومية العربية، وأنه يتوقف على الصراع في ما بينهما مصير المنطقة.

وبعد صدور قرار تقسيم دولة فلسطين وإنشاء إسرائيل، نهض مفكرٌ مسيحي لبناني رؤيويّ آخر، وهو ميشال شيحا، ليقول ان قرار إنشاء إسرائيل هو جريمة ضد الطبيعة، ضد الأخلاق والتاريخ والجغرافيا والديموغرافيا. وأن الصيغة التوافقية والتفاعلية الحضارية اللبنانية هي النقيض للصيغة العنصرية الاسرائيلية. وأن إسرائيل هي “سوبر دولة” (أي دولة متفوقة، أو فوق دولة) تدعمها قوى عالمية كبرى. وأنها لا يمكن أن تكون إلا دولة توسعيّة، وأن نموها لا يمكن أن يتم إلا على حساب جيرانها. كما وأن صراعها مع جيرانها، وفي مقدمهم لبنان، هو صراع وجود وصراع حدود معاً. وأخيراً، أن الصهاينة يريدون أن يجعلوا الشرقين الأدنى والأوسط منطلقاً للهيمنة الدولية. ما يعني أن ميشال شيحا لم يكتف بتأكيد فكرة نجيب العازوري، بل طوّرها ليقول ان الصراع بين الصهيونية والقومية العربية لا يتوقف عليه مصير المنطقة وحسب بل مصير العالم بأجمعه أيضاً.

لذا ترى أن ما يحصل في غزة ليس حرباً بين اسرائيل و”حماس”، بل انها الصورة المظهرة للصراع في المنطقة. ولم يكن من الممكن لغزة الشعب الفلسطيني أن تكون محاصرة ومعزولة، لا بل بائسة ومستباحة، لولا الخلل الفاضح في التمثيل السياسي للشعب الفلسطيني منذ رحيل الرئيس القائد ياسر عرفات.

وكوننا بدأنا بما قاله العازوري وشيحا، لا يمكننا التوقف عند الخلل السياسي الفلسطيني من دون التعمق بالحالة السياسية في كل من لبنان والعراق وسوريا واليمن – ودعاؤنا أن لا يكون الأردن على اللائحة كما يُخَطط له الآن، حيث التشرذم والصراعات، لا بل الحروب الداخلية المقيتة والمميتة وما نتج عنها من فقر وعوز، ناهيك عن تدمير البنى الاجتماعية لهذه الدُّوَل.

لا شك في أن غزة قد أعادتنا إلى زمن الستينيات حيث فلسطين هي القضية وهي العنوان؛ هي قضية شعب تُضاف الآن إلى قضايا شعوب سوريا والعراق التي ترى في ما تفعله إسرائيل استكمالاً لما بدأته أنظمة الاستبداد من تدمير لكل عمران ونسيج اجتماعي وتمزيق للهوية الجامعة.

إسرائيل التي تدمر غزة اليوم هي حليف طبيعي لكل ديكتاتور، صغيراً كان أم كبيراً.

إسرائيل التي تدمر غزة والضفة الغربية هي حليف أكثر من أكيد لكل متطرف يسعى الى إبادة الآخر!

الحرب في غزة فتحت الباب على حقيقة الصراع الحضاري في المنطقة والذي يدفع ثمنه الشعب الفلسطيني بالدم.

أخيراً وليس آخراً، سواء كانت الصهيونية تستغل المجتمع الغربي والأميركي وتستخدمه، أو كانت أميركا خاصة هي التي تستغل الصهيونية وإسرائيل وحتى اليهود وتستخدمهم، فممّا لا شك فيه أن “الشرق الأوسط الكبير”، كما سمِّيَ في الهجمة الأميركية الجديدة على المنطقة، هو الآن على مفترق طرق مصيري، حيث تبرز لنا بشكل نافر لوحة سريالية يعجز عنها خيال سيلفادور دالي نفسه؛ لوحة تنوء بالأشلاء وتنضح بالدماء وأكثر مأساوية، بما لا يقاس، من لوحة غرنيكا لبيكاسو. ولكن علمنا التاريخ أنه لا يعود إلى الوراء وله مسار واحد. وعليه، فإن ما لا يستطيع الشعب الفلسطيني أن يأخذه بالنار اليوم لا بد أن يجده ولو حتى بالرّماد غداً.

شارك المقال