في المرشد ومشروعه!

علي نون
علي نون

ليس أمراً عابراً ولا بسيطاً أن يعلن المرشد الإيراني أن مفاوضات فيينا توقفت، لأن واشنطن تشترط التزاماً إيرانيا بالبحث في قضيتي “الصواريخ والنفوذ”، وان هذا في عرفها أمر  يثبّت وجهة نظره القائلة بـ”عدم الثقة” بالغرب عمومًا والولايات المتحدة خصوصاً.

وما يقصده المرشد الإيراني ويعلنه، من دون أي حرج، هو أن بلاده تعتبر المطالبة الدولية أو الإقليمية بوقف التدخل في شؤون الغير على الطريقة المتبعة منذ عقود، أمراً يدلّ على “خبث ” الغرب! وعلى كذب الوعود برفع العقوبات كشرط حاسم للعودة إلى الاتفاق النووي .

والمرشد يتحدث كمرشد وولي فقيه بصلاحيات فوق بشرية! ولذلك يعتبر (بصدق) أن تدخلات بلاده في المحيط العربي والإسلامي  هو شأن “خاص” بالعالم الإسلامي، وليس شأناً من شؤون عالم اليوم المحكوم بأطر وحدود ومنظومات وكيانات وشرعيات وسيادات ووطنيات… وأن قصة الحدود السيادية النظامية القائمة راهناً، لا يمكن الاعتداد بها، ولا التوقف عندها، ولا أخذها في الاعتبار طالما أن التكليف الرباني يقول بغير ذلك، وطالما أن الدستور الإيراني يتضمن بنداً ينص بوضوح على وجوب “دعم المستضعفين” في دولهم أينما كانوا وكانت،  وطالما أن صلاحيات “الولي الفقيه ” تطال جميع أهل المذهب أينما كانوا، وبرضاهم أو غصباً عنهم .

والملفت في الكلام المرشدي هو استخدامه مصطلح “النفوذ” الذي تريد واشنطن البحث فيه قبل رفع العقوبات. النفوذ وليس أي شيء آخر.  أي أن طهران، الدولة القطبية المقتدرة والواصلة، تعتبر تدخلاتها التدميرية في دول الجوار القريب جغرافياً والقريب مذهبياً (حتى لو كان بعيداً على الخريطة) شأناً طبيعياً وعادياً و”لا يحق” للخارج، الغريب والاستكباري، التدخل فيه.

ويدل صاحب الشأن الإيراني، أمام قيادات بلاده المعنية بتدبير شؤون الحكم والتوجيهات والسياسات وتبليغها والعمل بموجبها، على هذه القضية من باب تقريع حكومة الرئيس حسن روحاني لأنها “وثقت بالخبثاء” الغربيين والأميركيين، ولأنها فشلت نتيجة لذلك، في حين أنها نجحت عندما تصرفت بعيداً عن ذلك المنحى. أي بكلام آخر، يقول المرشد إن “نفوذ” إيران الممتد من أفغانستان إلى لبنان مروراً باليمن والعراق وسوريا وغزة كان من صنع شرعية خاصة، عبر عنها ونفذها حرس الثورة وأدواته الخارجية، وليس نتيجة مساومات ومفاوضات ديبلوماسية. وأن عنوان الفشل هو “تجرؤ” الدول المفاوضة باسم الشرعية الدولية، على طرح الأمر على طاولة المفاوضات في فيينا.

لا يخفي كلامه ولا يغطيه بأي غطاء… وقبل الآن بعقود قال السيد حسن نصرالله لإحدى الصحف العربية كلاماً شديد الوضوح يصب في السياق المرشدي ذاته:  “لا نؤمن بدولةٍ مساحتها 10452 كيلومترًا مربعًا في لبنان، بل يستشرف مشروعنا لبنان في إطار خريطة سياسية لعالمٍ إسلامي لا وجود فيه لخصوصيات الدول، إنما تُصان فيه الحقوق والحريات وكرامة الأقليات”.

وذلك زبدة القول وخلاصته، والأمر الواقع والحاصل، حتى لو اقتضت التوريات “والظروف الموضعية” اعتماد خطاب آخر يحمل شبهة وطنية ما. حيث إن  حزب إيران في لبنان نفّذ وينفّذ عسكرياً وأمنياً وسياسياً وسلوكياً تلك الرؤى الواضحة القائلة بـ”الخريطة السياسية لعالم إسلامي لا وجود فيه لخصوصيات الدول”… هكذا دفعة واحدة! وهكذا راح عناصر حزبه إلى اليمن بالأمس، وإلى العراق ثم إلى سوريا قبل الأمس، وإلى محاولة مدّ “النفوذ” في البحرين وغيرها من دول الخليج العربي أكثر من مرة، وإلى الدخول في قضايا توضع تحت خانة الإرهاب في دول تمتد من أوروبا إلى أميركا الجنوبية إلى جنوب شرق آسيا.

إقرأ أيضاً: أزمة الهوية الثقافية تحت الوصاية الإيرانية

البعد الديني في مشروع إيران القومي يتماثل مع مشروع “الأخوان” في عناوينه وطرق تبليغه ومحاولة تطبيقه، والفارق بين المشروعين والمتأتي من حقيقة أن إيران “دولة” فيما “الأخوان” تنظيم يبحث عن “دولة” لا يلغي الأصل الرابط بينهما وهو توسل كل شيء غير سوي أو شرعي أو مدني من أجل  ادّعاء إقامة حكم القيم الفاضلة والشريعة المنزّلة! وفي الطريق إلى ذلك تُدّمر  وتُحطّم قدرات المسلمين وثرواتهم وقيمهم ودولهم ومجتمعاتهم ومصادر اقتدارهم وشروط تطورهم في عالم اليوم بكل أبعاده الحداثية… إلى حدّ أن يبتعد المرشد الإيراني عن الواقع ويفترض أن تدخل  الدول الغربية  “الكافرة” دفاعاً عن سيادة  دول شرقية إسلامية تستضعفها إيران هو أمر “خبيث” تماماً بتاتاً، وأن  من صلاحياته الربانية أن لا يقيم وزناً لحدود وسدود وأنظمة الغير (المختلف وطنياً وقومياً ودينياً ومذهبياً) وإلى حدّ أن يذهب عامله في لبنان إلى إلغاء كينونته خدمة لكينونة مرشده، وإلى حدّ أن يعتبر غنوشي تونس محاولة وقف انحدار بلاده إلى الهاوية انقلاباً تاماً وغير شرعي، وإلى حدّ أن يقف “أخوان” مصر  ضدها في نزاعها مع إثيوبيا! وإلى حدّ أن تبحث “حماس” غزة عن كيفية إعادة العلاقة مع بشار الأسد فيما تفعل كل شيء لتثبيت قطع الأوصال مع السلطة وأهل الضفة الغربية!

شارك المقال