خطر الحرب قائم طالما أن الحدود في يد “حزب إيران”

عبدالوهاب بدرخان

الجدل الداخلي الذي دار أخيراً حول “جدوى” المواجهة التي يخوضها “حزب إيران/ حزب الله” مع العدو الإسرائيلي عكس اقتناعاً عاماً بأنها، كما قيل، لم توقف المجازر اليومية التي يرتكبها هذا العدو، ولا الدمار الذي يعدم مقوّمات الحياة لأكثر من مليونَي غزّي، أي أنها لا تحقّق الهدف المفترض بل عكسه. غير أن الهدف الحقيقي ليس حماية المدنيين أو تحييدهم، بل تخفيف الضغط على “حماس” والفصائل المتحالفة معها أو “انقاذها” من الهدف الإسرائيلي – الأميركي المعلن، وهو “القضاء عليها” وتدميرها. أي أنه بالنظر الى النتائج المحققة والملموسة حتى الآن، يمكن أن يكلّف “بقاء حماس” أكثر من مئة ألف بين قتيل ومفقود ومصاب، وما يقرب من مليوني غزّي اقتُلعوا من مساكنهم ولا يجدون مأوى ولا حتى خياماً، عدا التداعيات التي يُدفع ثمنها دماً وانتهاكات واعتقالات وتهجير قرىً في الضفة الغربية، ودماً ودماراً في جنوب لبنان.

كثيرون قالوا إن المخطّطين لعملية “طوفان الأقصى” لم يتوقّعوا أن يكون الردّ الإسرائيلي بهذه الوحشية، وكأنهم لا يعرفون العدو. بل يعرفونه، وهو ذهب هذه المرّة الى أقصى الهمجية وأبعد مما كان توعّد به قبل الانسحاب من غزّة، ولم يغب عن باله خطاب “محور الممانعة” الذي دأب على التبشير بـ “اقتراب نهاية إسرائيل”. الأكيد أن أولئك المخططين استطاعوا توجيه ضربة للعدو لم يكن يتخيّلها وأشعرته فوراً بأنه في “خطر وجودي”، ولعلهم وضعوا في حساباتهم أن الكلفة البشرية والعمرانية ستكون عالية انما يمكن تحمّلها، لأن الهدف “يستحق”… لكنها بلغت مستوى لم يتصوروه، الى حدّ جعل القطاع غير قابل للعيش فيه ولسنوات طويلة مقبلة. بدوا معذورين لأنهم ركّزوا كل جهدهم في بناء قوّة قادرة على مهاجمة العدو وإنزال هزيمة به خلال بضع ساعات، وقادرة أيضاً على التصدّي للعدو وإيذائه، وعلى إعادة القضية الفلسطينية الى واجهة الاهتمامات الدولية، لكنهم لم يتمكّنوا ولم يكن متصوَّراً أن يتمكّنوا من بناء دفاع قوي موازٍ للقدرات الجويّة وعشرات الأطنان من القنابل، فهل هم معذورون في ذلك أيضاً انطلاقاً من أن كل تجارب الشعوب على مرّ التاريخ أثبتت استحالة تغيير الواقع أو إزالة الاحتلال إلا بالتضحيات؟

مرّة أخرى: “الهدف يستحق”… لكن ما الهدف هنا؟ أهو هزيمة إسرائيل أو انهاؤها، أم اجبارها على انهاء الاحتلال، أم السيطرة الكاملة على السلطة الفلسطينية؟ معظم المجتمع الدولي، بما فيه الدول العربية والإسلامية، يطالب اليوم بإنهاء الاحتلال، وهذا من النتائج الإيجابية التي تُحسب لـ “طوفان الأقصى”، كما يحبّذ تعزيز السلطة الفلسطينية التي يعترف بها لتظلّ العنوان المعروف لشعبها ولـ “الدولة الفلسطينية” الموعودة لكن إسرائيل و”حماس” (وبالتالي إيران) ترفضان هذه السلطة، بل ان نتنياهو صارح منتقدي مهادنته “حماس” وتسهيل تمويلها بأنه يراهن عليها لإضعاف السلطة الساعية الى “الدولة” كتجسيد لطموحات الشعب الفلسطيني.

يطالب المجتمع الدولي أيضاً بأن يقترن إنهاء الاحتلال بالعمل الجاد على تطبيق “حلّ الدولتين”، وهو ما ترفضه إسرائيل (والولايات المتحدة؟) وإيران والميليشيات التي تستتبعها. وفي حدّه الأدنى لا يعني هذا الرفض إيرانياً إلا دفعاً الى تسلّم “حماس” السلطة في الضفة والقطاع، وفي حدّه الأقصى تعطيل أي حلول أو تسويات ومواصلة العمل على مشروع “إنهاء إسرائيل”، وهذا هدف يتمنّاه العرب والمسلمون قاطبةً، علناً أو ضمناً، لكنه عقائدي وغير واقعي يخدم “البروباغندا” الإيرانية ولا شك في أن الاصرار عليه سيكلّف إيران نفسها -مع المنطقة العربية- حرباً كبرى مع الغرب الأميركي والأوروبي. وفي الطريق الى “إنهاء إسرائيل” استطاعت إيران أن تنهي عملياً سوريا والعراق واليمن، وأقامت “تفاهماً موضوعياً” مع إسرائيل حال وقد يحول دائماً دون التوصّل الى حلول للمسألة الفلسطينية، لكن الحرب على غزّة قد تطيح هذا “التفاهم”.

وإذ أنجزت ما أنجزته من احتلالها للبنان، يبقى أمامها أن تنهي كلّياً الكيان اللبناني المتعارف عليه. لذلك لم يُفضِ الجدل الداخلي حول “جدوى” الحرب الى نتيجة يمكن أن تدفع “الحزب” الى مراجعة خياراته أو تصويب تقديره للموقف، فهو يراهن على مواظبة العدو الإسرائيلي على التزام ما تُسمّى “قواعد الاشتباك”. الأسوأ أنه مدركٌ، حتى قبل أن يبدأ المواجهة غداة عملية “طوفان الأقصى”، أي في 8 تشرين الأول الماضي، أن قراره لا يحظى بتأييد من الشعب اللبناني، ولا من الجيش، ولا من “الدولة”، لكنه أقدم عليه لأنه قادرٌ على ذلك، ولن يلقى أي معارضة حقيقية تثنيه عن خياره، طالما أن الشعار المرفوع هو “الطريق الى الأقصى” أو مجرد “مساندة غزّة”. أما السبب الآخر والأهمّ فهو بالطبع أن مرجعيته الإيرانية طلبت من جميع أتباعها الانخراط في الصراع، إما تطبيقاً لاستراتيجيتها الإقليمية أو لاستدراج القوى الدولية الى بازار تفاوضي معها بهدف “عدم توسيع الحرب” الى جبهات أخرى.

ومع وصول البوارج الأميركية وتلويح الولايات المتحدة بالجدّية في التصدّي لأي حرب ضد إسرائيل- خارج قطاع غزّة- وابلاغها ذلك الى إيران عبر كل قنوات الاتصال المعروفة وغير المعروفة، أدركت طهران أن هامش مكاسبها الخاصة والمباشرة سيكون ضيّقاً فحافظت على “قواعد اشتباك” باتت ثابتة وتقليدية بينها وبين واشنطن، وتتمثل في تحريك ميليشياتها في البلدان الأربعة سواء ضد إسرائيل مباشرةً أو ضد القواعد الأميركية. في الأثناء طلبت روسيا من بشار الأسد عدم إقحام جبهة الجولان في الصراع، ولم يكن الأسد يتمنى شيئاً آخر، إذ حذّره الروس أيضاً بأنه قد يواجه هذه المرّة ضربات تستهدفه ونظامه، ثم إن الروس توافقوا مع الإيرانيين الذين يسيطرون منذ زمن على جبهة الجولان على تحييد تلك الجبهة للحفاظ على نظام بشار. أما هجمات الميليشيات الإيرانية في العراق وسوريا فشكّلت هامشاً مفيداً لموسكو وطهران طالما أنه يزعج القواعد الأميركية من دون أن يستدرج خطراً على الوضع الراهن للنظامين في بغداد ودمشق. وإذ تُرك للإيرانيين استغلال جماعة الحوثيين في اليمن، فقد تبيّن في الأيام الأخيرة أنه ذو جدوى استراتيجية بانعكاساته التجارية والجيوسياسية، لكنه ينطوي على مجازفات قد تزداد خطورتها إذا ارتكبت طهران خطأً في ادارتها.

تبقى جبهة الجنوب اللبناني الأكثر خطورة، ولولا الضوء الأحمر الأميركي لإسرائيل لكانت هذه فجّرت المواجهة ووسّعتها، فمهما بلغت كلفتها عليها لن تضاهى بما سيتكبّده لبنان واللبنانيون، خصوصاً إذا اتّبعت تدميراً منهجياً. صحيح أن “حزب إيران/ حزب الله” يوحي بأنه يقدّر العواقب، على عكس “حماس” بالنسبة الى الكارثة التي حلّت بقطاع غزّة، يبقى الأساس أن لا تقع الحرب. لكن دوافع كثيرة تراكمت لدى الإسرائيليين، منها أنهم لم يحققوا انتصاراً في غزة وليس بسبب قلقهم من جبهة الشمال، ومنها كذلك أنهم يتعرضون في هذه الجبهة لاختبار يريدون الردّ عليه وعدم تركه بلا محاسبة، ومنها أيضاً أن “الحزب” جعل بيروت “غرفة عمليات” لحركتَي “حماس” و”الجهاد”، ومنها طبعاً ضغوط المستوطنين للعودة الى مساكنهم بالقرب من الحدود، ومنها أخيراً وخصوصاً أنهم لا يريدون العيش مع خطر دائم يشابه خطر “حماس” بل يتجاوزه، ثم إن “الحزب” يرفض تطبيق القرار 1701 ليس فقط كـ”تسوية ديبلوماسية” بل لأنه لا يريد أن تكون المنطقة الحدودية في كنف الجيش اللبناني، أي في كنف الدولة اللبنانية.

شارك المقال