الحرب الاستخباراتية… العنصر البشري الأهم والتاريخ حافل بالعملاء

محمد شمس الدين

الحرب الاستخباراتية تكاد تكون بالأهمية نفسها للحرب العسكرية، بل قد تفوقها أهمية، فبالامكان ربح معركة قبل خوضها حتى بسبب المعلومات القيّمة التي تؤمنها الاستخبارات. وتعتمد أجهزة الدول اليوم على جمع المعلومات الاستخباراتية وتحليلها من خلال عدة مصادر كالأقمار الصناعية والطائرات المسيرة والتجسس على وسائل التواصل الاجتماعي، ولكن يبقى عنصر الاستخبارات الأهم لدى الدول هو العنصر البشري، بحيث تجند الأجهزة عملاء لدى الدول أو التنظيمات وتدفع لهم مبالغ طائلة مقابل معلومات حساسة للجهة “العدوة”.

تاريخياً، ينسب الكثيرون بداية التجسس الحديث وتطور العديد من أساليب التجسس إلى السير فرانسيس والسينغهام، الذي كان السكرتير الشخصي للملكة إليزابيث الأولى.

ولمواجهة مخاطر العالم الكاثوليكي، أنشأ والسينغهام، وهو بروتستانتي متحمس، جهازاً سرياً كشف النقاب عن عدة مؤامرات ضد الملكة. كما قام بإنشاء شبكة من الجواسيس في فرنسا واسكتلندا وايطاليا وحتى تركيا وغيرها، مستخدماً المخبرين والعملاء المزدوجين بالاضافة إلى الخبراء في فك الشفرات.

اليوم وفي ظل الحرب على غزة، واشتعال جبهة جنوب لبنان، تشكل الاستخبارات نصف الحرب، ولدى اسرائيل قدرة مخابراتية عالية مجهزة ومدربة بأكثر الوسائل تطوراً في العالم، وكذلك يمتلك “حزب الله” جهازاً مخابراتياً جيداً جداً، استطاع من خلاله توجيه ضربات استراتيجية موجعة الى اسرائيل. 

وانتقلت الدولة العبرية إلى ما سمتها “مرحلة أكثر دقة” في الحرب الدائرة، والتي تعتمد على استهداف قيادات تنظيمات محور المقاومة، وحتى قيادات في الحرس الثوري الايراني، اذ تمكنت من اغتيال القيادي في “فيلق القدس” رضي موسوي في سوريا، واغتيال القيادي “الحمساوي” صالح العاروري في الضاحية الجنوبية لبيروت، بالإضافة إلى آخر اغتيال للقيادي البارز في “حزب الله” وسام الطويل في جنوب لبنان. وفي حين استهدفت موسوي والعاروري عبر طائرات من الجو، ليس واضحاً كيف اغتيل الطويل، مع ترجيح نظرية عبوة ناسفة على طريق منزله. 

وعلى إثر الاغتيالات، أصدر “حزب الله” بياناً أمس أشار فيه إلى أن العدو الاسرائيلي يلجأ إلى الاتصال ببعض الأهالي من أرقام هواتف تبدو لبنانية، عبر الشبكتين الثابتة والخلوية، بهدف الاستعلام عن بعض الأفراد وأماكن وجودهم ووضعية بعض المنازل، موضحاً أن “العدو ينتحل في هذه الاتصالات صفات متعددة، تارة صفة مخافر تابعة لقوى الأمن الداخلي في مناطق الجنوب، وأخرى صفة مراكز للأمن العام اللبناني، وتارة ثالثة ينتحل صفة هيئات إغاثية تقدم المساعدات وغير ذلك. ويسعى المتصل، الذي يتحدث بلهجة لبنانية سليمة، إلى استقاء معلومات حول أفراد عائلة المُتّصَل به وأماكن وجودهم، أو معطيات مختلفة تتعلق بالمحيط، وذلك تحت ساتر إظهار الحرص والسعي إلى تقديم المساعدة. ويستغل العدو هذه المعلومات للتثبت من وضعية وجود الإخوة المجاهدين في بعض البيوت التي يعتزم استهدافها”.

ولكن هل هذا يعني أن هذه هي الطريقة الوحيدة التي يحصل فيها العدو على معلوماته؟ يقول مصدر أمني مطلع: “ليس مستبعداً أن يكون الحزب تعرض للخرق في مكان ما، وتكون اسرائيل قد جنّدت عنصراً أو أكثر من عناصره لتزويدها بالمعلومات، وهذا أمر طبيعي بين كيانين متحاربين ولدى كل منهما عملاء لدى الآخر، بحيث يبدو أن للحزب عملاء في الداخل الاسرائيلي أيضاً، وسيكون على جهاز الاستخبارات المضاد، في كل من الكيانين، كشف هؤلاء العملاء”.

ويلفت المصدر الى أن “من النادر أن يعرف العوام وحتى الأجهزة اللبنانية بشأن عميل قبض عليه الحزب من داخل جسمه، لأن لديه أجهزته الخاصة للتعامل مع الأمر، فالحزب يمتلك سجوناً خاصة به، وقد يكون يرحل أي عميل إلى إيران حيث يسجن هناك”، مؤكداً أن “الحزب لا يكشف عن قبضه على عميل من صفوفه، ليس خوفاً من رد فعل في بيئته أو في الرأي العام كما يصوّر البعض، فالعميل لا دين له، بل لأن الأمر متعلق بالمخابرات المضادة، بحيث يمكن أن يؤدي الكشف عن الأمر إلى ضرب خطط معينة للحزب أو كشف معلومات متعلقة بعمله، أو حتى استغلال العميل لاعطاء العدو معلومات مضللة، لذلك يفضل التعامل مع الأمر على أكبر قدر من السرية، كي لا يتعرض للضرر أمنياً من كشف الأمر، والافادة منه في الوقت نفسه”. 

لطالما كان للجواسيس دور كبير في الحروب، وتاريخ العالم حافل بالذين نجحوا وكذلك الذين كشفوا، وعادة يكشف عن العمليات الاستخباراتية بعد وقت طويل من انتهاء المهمة، بحيث يكتب ضباط المخابرات المتقاعدون عن عملهم المخابراتي في مذكراتهم التي تنشر عندما لا تعود تؤثر على أي عملية حالية أو مستقبلية لدولهم. 

فمن من العرب لا يعرف قصة أهم جاسوس في التاريخ، ايلي كوهين، الذي كان ينتحل اسم كامل أمين ثابت، والذي زود اسرائيل بأهم المعلومات الاستخباراتية في تاريخها عن التجهيزات العسكرية السورية والخطط الدفاعية لمواجهتها؟ وجاء في بعض المصادر والكتب التي تناولت شخصية كوهين، ان منصب رئيس الوزراء عُرِضَ عليه، وفي روايات أخرى انه منصب وزير الدفاع، وهي مناصب على درجة عالية من الحساسية والخطورة.

وفي لبنان اعتقل العديد من العملاء عبر التاريخ، لعل أشهرهم كان العميد المتقاعد في الجيش اللبناني فايز كرم، القيادي في “التيار الوطني الحر” والذي شكل كشفه صدمة في حينها. 

وهناك العديد من العملاء غيره الذين كانوا يزودون العدو الاسرائيلي بالمعلومات عن عمل “حزب الله” والقيادات في “المحور” ومنهم من نفذ عمليات له:

الرقيب في قوى الأمن الداخلي محمود رافع: اتهم بعمليات اغتيال عديدة أبرزها اغتيال جهاد أحمد جبريل مسؤول العمليات العسكرية لـ “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” – القيادة العامة.

المقدم في الجيش اللبناني غزوان شاهين: الذي اتهم بتزويد إسرائيل بمعلومات ميدانية خلال حرب 2006.

ناصر نادر: المتهم باغتيال القيادي في “حزب الله” غالب عوالي عام 2004.

العميد المتقاعد في الأمن العام أديب العلم: اتهم بالتعامل مع جهاز المخابرات الاسرائيلي.

العقيد منصور دياب: رئيس مدرسة القوات الخاصة في الجيش اللبناني، اتهم بالتعامل مع “الموساد”.

شربل قزي وطارق الربعة: اتهما بالعمل في ما أصبح يعرف بشبكة “ألفا للاتصالات الخلوية” التي وصفت بأخطر الشبكات.

وتحاول اسرائيل قدر المستطاع تجنيد عناصر أجهزة أمنية، كونها تمتلك حرية حركة كبيرة، ولديها قدرة على الوصول إلى معلومات وأماكن قد لا يمكن للمدنيين الوصول إليها، إلا أن أي عميل يمكنه مساعدة العدو اليوم، عبر تزويد معلومات عن تحركات العناصر في القرى، ولهذا يسعى جهاز الاستخبارات الاسرائيلي الى الوصول الى أكبر عدد من الأشخاص في الجنوب، وقد يجنّدهم من دون علمهم أنهم يعملون لصالحه.

شارك المقال