طابخ السم آكله

عاصم عبد الرحمن

تُعتبر محاكمات نورمبورغ الألمانية وهي سلسلة من المحاكم العسكرية عقدتها قوات الحلفاء عقب الحرب العالمية الثانية وهزيمة ألمانيا ودول المحور وفقاً للقانون الدولي وقوانين الحرب بين عامَيْ 1945 و1946، الأكثر شهرة وأعظمها نظراً الى محاكمة كبار المسؤولين السياسيين والعسكريين والقضائيين والاقتصاديين والأطباء الذين أجروا تجارب طبية على البشر في ألمانيا. فقد حوكم القادة النازيون بسبب مشاركتهم في جرائم قتل جماعية والأهم جريمة الهولوكوست (محرقة اليهود)، ووُجهت تهمة “جرائم ضد الإنسانية” إلى النازيين آنذاك إذ إنَّ مصطلح “الإبادة الجماعية” لم يستخدم قانونياً حتى العام 1948 تاريخ توقيع اتفاقية منع هذه الجريمة ومعاقبتها، فمن طبخ ذاك السم ليأكله الآن؟

الإبادة الجماعية في القانون

على الرغم من ورود مصطلح الإبادة الجماعية في لائحة اتهام القادة النازيين كتوصيف للجرائم التي ارتكبوها، فإنَّ هذا المصطلح لم يأخذ صفته القانونية كجريمة دولية إلا في العام 1948 إذ اعتبر قرار الأمم المتحدة الصادر بتاريخ 11 كانون الأول 1946 أن الإبادة الجماعية هي “ارتكاب أي عمل من الأعمال الآتية بقصد الإبادة الكلية أو الجزئية لجماعة ما على أساس القومية أو العرق أو الجنس أو الدين” مثل:

  • قتل أعضاء الجماعة.
  • إلحاق الأذى الجسدي أو النفسي الخطير بأعضاء الجماعة.
  • إلحاق الأضرار بالأوضاع المعيشية للجماعة بشكل متعمد بهدف التدمير الفعلي للجماعة كلياً أو جزئياً.
  • فرض إجراءات تهدف إلى منع المواليد داخل الجماعة.
  • نقل الأطفال بالإكراه من جماعة إلى أخرى.

أما نظام روما الأساسي الذي أنشأ المحكمة الجنائية الدولية فقد اعتبر أن الإبادة الجماعية هي: “ارتكاب أفعال معينة على نطاق موسع يتم تنفيذها بقصد القضاء على مجموعة كلياً أو جزئياً بناءً على هوية هذه المجموعة القومية أو الإثنية أو العنصرية أو الدينية”.

وسواء ارتكبت الإبادة الجماعية في زمن الحرب أو السلم فتجريمها لا يقتصر على الموقعين على الاتفاقية وحسب، وإنما تسري أحكامها على الدول التي لم تصادق عليها وهو ما أكد عليه الأمين العام للأمم المتحدة في تقريره الصادر بتاريخ 3 أيار 1993 الذي اعتبر الاتفاقية جزءاً من القانون العرفي بمصادقة مجلس الأمن الدولي. ووفق المادة الثالثة منها فإن الإبادة تشمل أيضاً التآمر على ارتكابها والتحريض المباشر والعلني عليها ومحاولة ارتكابها والإشتراك فيها.

وتنظر محكمة العدل الدولية التي تتخذ من لاهاي في هولندا مقراً لها وهي أعلى هيئة قانونية تابعة للأمم المتحدة وتأسست عام 1945 في النزاعات الناشئة بين الدول، في حين أن المحكمة الجنائية الدولية الكائنة أيضاً في لاهاي والقائمة على المعاهدات تنظر في اتهامات جرائم الحرب الموجهة إلى الأفراد. وتتألف هيئة محكمة العدل الدولية من 15 قاضياً مضافاً إليهم قاضٍ عن كل دولة “طرف في النزاع” وتنظر أيضاً في النزاعات الحدودية وانتهاك التزامات معاهدة الأمم المتحدة، ومع أن أحكامها نهائية وغير قابلة للطعن فيها فليست هناك أي وسيلة لتنفيذها.

عقوبات وعواقب

تنصُّ المادة 77 من نظام روما الأساسي على أنَّ للمحكمة أن تُوقِعَ على الشخص المدان بارتكاب “إبادة جماعية” إحدى العقوبات التالية:

  • السجن لعدد محدد من السنوات لفترة أقصاها 30 سنة.
  • السجن المؤبد عندما تكون هذه العقوبة مبررة بالخطورة البالغة للجريمة وبالظروف الخاصة للشخص المدان.

وتنصُّ المادة الرابعة من الاتفاقية على أن: “يُعاقب مرتكبو الإبادة الجماعية أو أي من الأفعال الأخرى المذكورة في المادة الثالثة سواء كانوا حكاماً دستوريين أو موظفين عامّين أو أفراداً”.

كما تنصُّ جميع الاتفاقيات المتعلقة بـ”الإبادة الجماعية” على أنها “جرائم لا تخضع للتقادم، ومرتكبوها لا يستفيدون من الحصانة إذ تتم ملاحقة كل شخص ارتكبها أو أمر بارتكابها من دون النظر إلى منصبه، سواء كانوا حكاماً أو موظفين عامّين أو أفراداً غير مسؤولين، وذلك وفق المادة الرابعة والمادة الثالثة من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية”.

إنَّ التاريخ البشري مليءٌ بالشواهد القاسية على ارتكاب إبادات جماعية منها ما نال مرتكبوها عقوباتهم ومنها مَنْ فرَّ من وجه عدالة الأرض ليواجه بلا شك عدالة السماء. ففي البوسنة حيث استخدم مصطلح “المذبحة” للإشارة إلى عمليات القتل التي ارتكبتها القوات الصربية في سربرينيتسا عام 1995 أو عمليات التطهير العرقي التي حدثت خلال تلك الحرب بين عامَيْ 1992 و1995. وقد حكمت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة عام 2001 أن مذبحة سربرينيتسا التي حدثت عام 1995 هي إبادة جماعية. وفي 26 شباط 2007 أيَّدت محكمة العدل الدولية نتائج المحكمة الجنائية ليوغوسلافيا بخصوص قضية مذبحة البوسنة، وأكدت ارتكاب جرائم إبادة جماعية في سربرينيتسا وزيبا.

وفي العام 1998 حُكم على مرتكبي الإبادة الجماعية في رواندا بالسجن مدى الحياة، وكان من بينهم رئيس الوزراء جان كمباندا الذي اعترف بمسؤوليته عن إبادة المدنيين من عرقية التوتسي.

ومن الجرائم التي هزت التاريخ ومزقت صفحاته أيضاً: إبادة الأميركيين الأصليين (الهنود الحمر)، مجازر الأرمن، كارثة هيروشيما، مذبحة صبرا وشاتيلا في لبنان، مذبحة حماه في سوريا، المجازر الجماعية بحق مسلمي الروهينغيا في بورما وغيرها الكثير من الإبادات المستمرة بحق الشعوب أكثرها إيلاماً المجازر الصهيونية بحق الفلسطينيين المستمرة منذ العام 1909 وحتى اليوم.

إسرائيل وإبادة الحق

وفقاً للنصب التذكاري الرسمي في متحف الهولوكوست في الولايات المتحدة قتل النازيون بحدود الـ17 مليون شخص من بينهم 6 ملايين يهودي وهو رقم مبالغ فيه إلى حد بعيد وفق دراسات عديدة أظهرت أنَّ مجمل اليهود الذين كانوا موجودين في ألمانيا لا يتعدون الـ500 ألف يهودي. مبالغةٌ أُريد من خلالها التمهيد لمحاكمة قادة ألمانيا النازية لخلق قضية لليهود تحت مسمى “معاداة السامية” وضرورة إيجاد وطن قومي لهم في فلسطين بدأت معالمها تترجم بارتكاب الصهاينة مجازر بحق الفلسطينيين منذ العام 1909 في عهد الإنتداب البريطاني وبمباركته وتوَّجَها وزير خارجيته بـ “وعد بلفور”. وعليه وفي العام 1944 ابتكر المحامي اليهودي البولندي رافائيل ليمكين مصطلح “الإبادة الجماعية” بهدف التحريض على محاكمة قادة الرايخ الألماني عبر استحضاره الهولوكوست الذي طال يهود أوروبا. وقد لجأ إلى تركيب مصطلحه عبر الجمع بين كلمة “جينو geno ” اليونانية التي تعني سلالة أو عرقاً أو قبيلة وكلمة “سايدcide ” اللاتينية التي تعني القتل.

آثر ليمكين على استحضار الهولوكوست في مختلف الميادين الدولية وعلى أوسع نطاق مطلِقاً جهوداً ديبلوماسية وحقوقية وقانونية حتى أقرت الأمم المتحدة اتفاقية تقضي بمنع جرائم الإبادة الجماعية ومعاقبة مرتكبيها وذلك في 9 كانون الأول 1948.

منذ أكثر من 70 عاماً سعى المحامي اليهودي رافائيل ليمكين إلى توفير أسوأ معاني الادانة بحق القادة النازيين على أثر ارتكابهم المحرقة اليهودية، وظلَّ اليهود حتى يومنا هذا ينعتون الألمان بمرتكبي الإبادة الجماعية بحقهم ويرغمونهم على دفع تعويضات مالية ومعنوية هائلة لقاء أعداد ضحايا مضخمة. لم يعتقد ليمكين أنَّ السم الذي طبخه لإطعام الألمان يأكله أحفاده اليوم بارتكابهم إبادة جماعية مستمرة بحق الفلسطينيين على مرأى ومسمع من العالم أجمع. وها هي إسرائيل تواجه رسمياً بدعوى مقدمة من جنوب إفريقيا وللمرة الأولى منذ نشوئها تهمة ارتكاب إبادة جماعية سيسيء الحكم بإدانتها إلى سمعتها هي التي تدعي الديموقراطية وسط عالم مظلم.

شارك المقال