الدور السعودي في “طوفان الأقصى”

عاصم عبد الرحمن

كان واضحاً أنَّ ما قبل 7 تشرين الأول 2023 تاريخ انفجار “طوفان الأقصى” ليس كما بعده، إذ أعاد ترتيب مختلف الأوراق السياسية وبدَّل ملفات المنطقة والاقليم من حيث الأولوية رأساً على عقب، وغيَّر أجندات الدول الكبرى والمؤثرة وتلك التي تنتظر عند مفترق طرق المتغيرات الجيوسياسية لحصد مكتسبات سياسية ما يتمُّ تصريفها في سوق المصالح الاقتصادية. فمن الولايات المتحدة مروراً بالهند وصولاً إلى إسرائيل كيف فجَّرت السعودية طوفانها السياسي الأقصى خدمةً للقضية الفلسطينية؟

في عهد الرئيس الأميركي الأسبق والمرشح الحالي دونالد ترامب انشغل الشرق الأوسط بأكثر من حدث سياسي ساخن ارتبط بإسرائيل، فبعد تقديمه خطة تصفية القضية الفلسطينية عبر ما عرف بـ “صفقة القرن” التي بعثرت الأحياء والبلدات الفلسطينية وشوارعها وأعادت تركيبها على شكل ما يسمى دولة عاصمتها إحدى بلدات مدينة القدس “أبو ديس” في مقابل إغراءات اقتصادية هائلة، لم تحُل دون رفضها على المستوى العربي عبر موقف موحد جامع عبَّرت عنه جامعة الدول العربية.

بعد رفض العرب مشروع صهر ترامب اليهودي جاريد كوشنير، انتقلت الادارة الأميركية إلى بناء استراتيجية الأمن القومي الأميركي التي قامت على إنشاء حلف “نيتو شرق أوسطي” بين الدول العربية وإسرائيل استُهلت بإطلاق اتفاقات إبراهيم التي أوصلت إلى تطبيع العلاقات بين إسرائيل وبعض الدول العربية كالامارات والبحرين والمغرب والسودان وذلك تحت راية مواجهة الخطر الايراني في الاقليم تُوّجت باغتيال قائد الحرس الثوري الايراني قاسم سليماني مطلع العام 2020. هكذا إذاً انطلق قطار التطبيع من دولة عربية إلى أخرى جعلت من رئيس وزراء العدو الاسرائيلي بنيامين نتنياهو ملكاً على إسرائيل جلب لهم الأمن والسلام.

بدأ عهد الرئيس الحالي جو بايدن الذي قررت إدارته بناء استراتيجية أمنية جديدة تقوم على الانسحاب من الشرق الأوسط وهو ما ترجمته بمغادرة أفغانستان وتسليم الحكم فيها إلى حركة “طالبان”. استراتيجية بايدن الأمنية الجديدة ارتكزت في مفهومها السياسي على مفاعيل التطبيع العربي مع إسرائيل المتفاعلة في المنطقة مقرراً الخروج منها بهدف التفرغ لمواجهة التنين الصيني وتالياً الدب الروسي الذي يزعجه في أوكرانيا، على أن يسلمها إلى الشرطي الأمين والموثوق أميركياً “إسرائيل” التي تعيش شهر عسل سياسياً وديبلوماسياً واقتصادياً وأمنياً غير مسبوق، فقد أسست علاقات تجارية وثقافية وسياحية ذات أهمية مادية مع الدول المطبعة، إلا أن العين التطبيعية الاسرائيلية ومن خلفها الأميركية بقيت شاخصة على دولة عربية وإسلامية واحدة، هذه الدولة فيما لو طبعت مع إسرائيل لاكتمل هيكل مملكة بنيامين نتنياهو.

ومن أجل هذه الغاية بُذلت جهود أميركية وغربية كبيرة تمثلت في إطلاق مشروع الممر الاقتصادي بين الهند والخليج وأوروبا ويمتد عبر بحر العرب من الهند إلى الامارات العربية المتحدة ثم يعبر المملكة العربية السعودية والأردن وإسرائيل وصولاً إلى أوروبا، ويشمل هذا المشروع كابلاً بحرياً جديداً وبنية تحتية لنقل الطاقة بالإضافة إلى إنشاء خطوط للسكك الحديدية وربط الموانئ البحرية لتعزيز التبادل التجاري وتسهيل مرور البضائع، كما يهدف إلى تسهيل عملية نقل الكهرباء المتجددة والهيدروجين النظيف عبر كابلات وخطوط أنابيب من أجل تنمية الاقتصاد الرقمي عبر الربط والنقل الرقمي للبيانات من خلال كابلات الألياف البصرية.

مشروع اقتصادي ضخم إذاً من شأنه أن يدرَّ على اقتصاد الدول الشريكة فيه فوائد هائلة على مختلف الأصعدة. وما كان لافتاً في هيكلية هذا المشروع هو الشركاء المفترضون فيه وأبرزهم السعودية وإسرائيل، شراكةٌ تفترض تطبيع العلاقات بينهما لتسهيل عملية التنفيذ، تطبيعٌ كاد يسلك طريقه لولا أن فخّخ “طوفان الأقصى” مختلف الطرق المؤدية إليه وأعاد معظم العملية السياسية في الاقليم إلى النقطة صفر. فبعد طوفان التطبيع الذي كاد يجتاح المنطقة العربية شخصت العين الاسرائيلية على السعودية التي ستحذو حذوها مختلف الدول العربية والاسلامية لما تمثله من ثقل ديبلوماسي وسياسي وإسلامي، تطبيع سعودي مع إسرائيل من شأنه أن يدلل على تصفية القضية الفلسطينية وموافقة سعودية ضمنية على تهجير أهالي الضفة الغربية إلى الأردن وأهالي غزة إلى سيناء وتالياً قضم الأراضي الفلسطينية حتى الرمق الأخير، عندها يثمر مشروع الممر الاقتصادي وتمحو عوائده المالية الضخمة ذاكرة المستفيدين الذين سيقولون: “كان هناك ما يسمى فلسطين”.

إلا أن لفلسطين كلاماً آخر، كلام عسكري تنطق به “كتائب القسام” دفاعاً عن القضية والحق والهوية والتاريخ، وآخر ديبلوماسي نطقت به المملكة العربية السعودية التي أعادت التأكيد مؤخراً بلسان وزير خارجيتها الأمير فيصل بن فرحان على ربط أي خطوة تطبيعية مع إسرائيل بالالتزام النهائي بحل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية قابلة للبقاء، وهو ما ترفضه بصورة مطلقة حكومة بنيامين نتنياهو الذي اعتقد بإمكانه شراء الضمائر والأخوَّة بحفنة من مال ونفوذ.

شارك المقال