بعد استنفاد “لعبة الشارع” في طرابلس… تساؤلات عمّن أشعل الشرارة وأطفأها!

إسراء ديب
إسراء ديب

تعيش مدينة طرابلس حالاً من الجمود السياسيّ والشعبيّ بطريقة غير مسبوقة، وذلك على الرّغم من “النكبات” الاجتماعية والمعيشية التي لا تخفى على أحد وقد تفاقمت في الأشهر الماضية بصورة ملحوظة ضمن المجالات كافّة، إلّا أنّها لم تُحرّك حتّى اللحظة الفئات الغاضبة من سوء الوضع الاقتصادي، فلم تدفعها إلى احتجاجات شعبية أو إلى أيّ “شغب” كالذي سُجّل في الأعوام الماضية لا سيما عام 2021 الذي شهد على مواجهات عنيفة بين الأمنيين وشبان من المدينة احتجاجاً وغضباً من الوضع الاقتصادي من جهة، كما من الاهمال الرسميّ بحقّ مدينة لم تتحسّن ظروفها يوماً من جهة ثانية.

وبعد مرور أكثر من ثلاثة أعوام على التظاهرات والمواجهات التي شهدتها طرابلس وأحدثت فيها بصمة لا تُنسى، لا سيما تلك التي وقعت خلال كانون الثاني عام 2021، يُمكن التأكيد أنّ هذه “الموجة” الغاضبة أو الثورية قد “شفطت” كلّ القوّة من أهالي المدينة لا سيما من أولئك الذين كانوا يرغبون في تسجيل موقف سلميّ، ما يُفسّر ولو جزئياً سبب صمت أهالي المدينة عن كلّ الأحداث الصاخبة الأخيرة من دون تسجيلهم موقفاً يُعيدها إلى مشهديّة “عروس الثورة” من جديد.

في الواقع، لم تترك الحكومة الحالية شيئاً يُحرّك المواطنين ويدفعهم إلى الانتفاض أو الاحتجاج إلّا وفعلته، محدثة شرارة كانت تحرق البلاد خلال الأعوام الماضية، الأمر الذي يُثير تساؤلات كثيرة لدى الأوساط السياسية في طرابلس، عن سبب عدم تحرّك المواطنين ضدّ التحوّلات التي تهزّ عاصمة الشمال، وغياب الناشطين أو “الثوار” الذين عرفوا في السنوات الماضية إمّا بقطع الطرق أو باقتحام المحال والتدخل في كلّ حدث محلّي.

ويستذكر أحد المتظاهرين السابقين “لعبة الشارع” التي تمّ استغلالها سياسياً وأمنياً في طرابلس، ويروي بعض تفاصيل الاحتجاجات التي وقعت عام 2021 تحديداً، إذْ يُحاول “لبنان الكبير” إعادة تسليط الضوء عليها، خصوصاً وأنّها كانت أدّت إلى حدوث تغيّرات في الشارع الطرابلسيّ الذي “حرّم” النزول ميدانياً خوفاً من الملاحقة أوّلاً، وقلقاً من تدخل “الطابور الخامس” وفق ما أسماه المتظاهر ثانياً.

ويقول لـ “لبنان الكبير”: “بعد وباء كورونا والاغلاق العام، قرّرت الحكومة تمديد الاغلاق لمدّة أسبوعين أيّ لغاية 8 شباط من دون أيّ بديل كان يجب عليها أن تُقدّمه لنا عند اتخاذها القرار أساساً، ما أدّى إلى اشتعال الاحتجاجات بسبب تداعيات الاهمال الاقتصادية، وحصلت مواجهات حينها بيننا وبين القوى الأمنية والجيش وشكّك البعض بنوايانا، لكنّ المواجهات الأولى لم تكن بنية سيئة حرفياً، بحيث كنّا نرغب في إيصال وجهة نظرنا الى الدّولة، لكن الاحتجاجات التي امتدّت حينها لأكثر من أربعة أيّام كان تغيّر شكلها ورأينا حينها تدخلات من شبان لا نعرفهم، أحرقوا ودمّروا فتحوّلت الاحتجاجات إلى العنف، وقلقنا حينها من تشويه المدينة التي ليس هناك من يُعوّض عليها وشعرنا بالإحباط حين رأينا جنون الشارع الذي كان صادماً مع إلقاء قنابل يدوية حربية لا ندرك مصدرها، سبب وجودها وأسباب إلقائها على مواقع رسمية مثل سرايا طرابلس، في مقابل جنون أمنيّ أيضاً قائم على إطلاق الرصاص الحيّ لا المطاطي كما روى الأمنيون”.

ويوضح المتظاهر “الأربعيني” أنّ دوافع الاحتجاج كانت ثابتة ومعروفة، خصوصاً مع تفاقم نسبة البطالة والفقر المدقع الذي حرم الطرابلسيين أبسط حقوقهم لذلك، “معظم من قابلتهم قبيل تحوّل الشارع إلى الفوضى، كانوا من التبانة، المنكوبين ووادي النحلة، القبّة، وباب الرمل، وغيرها من المناطق الفقيرة، لكنّ ما حدث بعدها، كان يُقال عنه طابور خامس، ونحن نؤكّد أنّه طابور خامس، لأنّ المواطن الفقير لا يملك أسلحة غير كرامته ومطالبه المحقّة، ولأنّ مطالبنا ليست موجودة ضمن السرايا، المحكمة الشرعية أو البلدية وحتّى المصارف التي احترقت وشوّهت في وقتٍ سابق ولم يُعوّضنا أحد بل أقفل بعضها وقام بعضها الآخر بحماية نفسه بسواتر حديدية، لذلك نسأل، هل الطرابلسيّ بات مخيفاً الى هذه الدرجة؟”.

ويتحدّث مصدر سياسيّ لـ “لبنان الكبير” عن حال “الهرج والمرج” التي بدأت في طرابلس حينها، وامتدّت إلى مناطق أخرى كبيروت والبقاع حيث قطعت الطرق رفضاً لسياسة التجويع، كما قطعت غيرها تضامناً مع طرابلس، لكنّ بعد أعوام على هذه الاحتجاجات التي هدأت حتّى من دون التوصّل إلى حلول مرضية للمواطن، “شعرنا بوجود خطّة منظمة انتهجها سياسيون من داخل المدينة وخارجها وأمنيون دفعوا لتوجه الحشود نحو الشارع لضرب العناصر الأمنية بغية تصفية حسابات معظمها سياسيّ، لهذا السبب من تراجع عن الشارع كان نظيف الكف ورفض الانصياع إلى استغلال الشارع من بعض الفوضويين الذي عجز العنصر الأمني عن التعامل معه في بداية الأمر، خصوصاً عند عدم تنسيق الأجهزة الأمنية مع بعضها، ما يُفسّر عدم هجوم الجيش عليهم في البداية، لكنه تمكّن من استقدام تعزيزات واعتقل محتجين ووقعت إصابات بالمئات من الطرفيْن معظمهم من المواطنين، ما رفع سقف الاحتجاجات التي عادت إلى الشارع ضمن السنة نفسها نظراً الى تراجع الوضع الاقتصادي الذي لا يزال حجّة يتكئ عليها سياسيون من المدينة لم يتعلّموا من تجارب حروب طرابلس التي أنهكت المدينة، بل استغلوها استكمالًا لسياسة التجويع”.

واقع أليم 

إنّ الواقع الأليم الذي تعيشه المدينة حالياً يقوم على تفاصيل عدّة يذكر المراقبون أبرزها: أولها، يكمن في مسألة فراغ المدينة من “القيادة”، سواءً أكانت من المدينة أم من خارجها، بحيث لا يُمكن إخفاء تأثّرها الكبير بالغياب اللافت للقيادات الوطنية أولاً، الطرابلسية ثانياً، والسنّية ثالثاً، ما انعكس أساساً على الشارع في وقتٍ سابق، كما أثر في مسألة ضبط الوضع أخيراً بغياب هذه المرجعية التي لم توجدها الانتخابات النيابية الأخيرة ولم تفرضها الظروف التي لم تخلق شخصية واحدة قادرة على التعاطي مع أحداث المدينة وغيرها من المدن والقرى التي تتمتّع بحيثية مناطقية وطائفية بعيداً عن منطق “الاستغلال” الذي عرف السياسيون به عن جدارة.

أمّا ثانيها، فيكمن في تراجع الرادع الأمني والقانوني محلّياً، إذْ تُسجّل المدينة تجاوزات يومية ومتكرّرة لا يغفل عنها أحد، وسط صمت أمنيّ “مهيب” ومعيب أيضاً. وفي وقتٍ تستمرّ فيه الأجهزة الأمنية بتحرّكات بسيطة على الأرض قائمة على المداهمة والتفتيش عن المطلوبين “الصغار”، يُشدّد المراقبون لـ”لبنان الكبير” على أنّ التحدّي اليوم يُركز على الاصرار على إحباط مخطّطات العابثين بأمن المدينة واستقرارها، معتبرين أنّ “هذه المخطّطات لا تُشعل ما أشعلته الأحداث السابقة، بل يُمكن العبث بأمن المدينة بطريقة وأساليب أخرى، لا سيما في ظروف خلقت البيئات المناسبة للتجاوز الأمني والأخلاقي”.

بينما تركّز ثالثها، على وجود حال ارتياب طرابلسيّ من السلطة التي لا تقوم بخطوة فاعلة لإزالة الاحتقان الشعبي والناتج عن أمرين: أوله، التعامل السيء و”الفوقي” الذي يستخدمه مسؤولو المدينة مع أبنائها والقائم على مبدأ “دير الدينة الطرشة” لمطالبها وشعبها، بحجّة الانشغال بالظروف الوطنية، أمّا ثانيه، فناتج عن “الأزمات الاقتصادية التي تُعدّ قديمة وازدادت وطأتها منذ اندلاع الأزمة، ما دفع إلى حصول زيادة في نسب السرقات والنشل وغيرها من الجرائم”.

شارك المقال