على ماذا استفاق جعجع؟

صلاح تقي الدين

لم يكن رئيس حزب “القوات اللبنانية” الدكتور سمير جعجع موفقاً في إطلالته الاعلامية الأخيرة عبر برناج “صار الوقت” مع الزميل مارسيل غانم، وكان غير حازم في أجوبته لدرجة دفعت غانم إلى سؤاله عما إذا كان يعلن استسلامه أمام الواقع السياسي الحالي في لبنان والقوى المهيمنة على البلد وتحديداً الثنائي الشيعي.

لكن اللافت في إطلالة جعجع كانت محاولته رسم ملامح برنامجه السياسي للمرحلة المقبلة والتي فيها نقض كامل لموقفه الذي دفع ثمنه 11 عاماً سجناً منذ تغطيته مع البطريرك الراحل مار نصر الله بطرس صفير اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية التي انغمس فيها جعجع ورأى في الاتفاق سبيلاً للانتقال منها إلى مرحلة العمل السياسي.

لكن التلفيقات التي برع الجهاز الأمني اللبناني السوري السابق في ظل عهد الوصاية بتركيبها نجحت في إبعاده عن الساحة السياسية من خلال فتح ملفاته العسكرية والأمنية السابقة بعد اتهامه زوراً بتفجير كنيسة سيدة النجاة وإدخاله إلى غياهب سجن اليرزة وإصدار قرار همايوني بحل حزب “القوات اللبنانية”، نتيجة تشبثه بموقفه “السيادي” ورفض الانضمام إلى جوقة القابضين على السلطة اللبنانية باسم سوريا.

لكن الرياح العاتية إقليمياً ودولياً التي أفضت إلى اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ساهمت في إيجاد مخرج لاطلاق سراح جعجع وعودة المنفي إلى باريس طوعاً الرئيس السابق ميشال عون، فكان أن قام رئيس الحزب “التقدمي الاشتراكي” في حينها وليد جنبلاط بزيارة شهيرة إلى يسوع الملك، حيث كانت تقيم زوجة جعجع النائب ستريدا، لتوقيع عريضة نيابية تطالب بالعفو عنه وإطلاق سراحه، وهو ما حصل في مجلس النواب في 18 تموز 2005 حين صادق النواب على قانون العفو واحالته على رئيس الجمهورية السابق اميل لحود لتوقيعه كي يصبح نافذاً.

ويسجل في هذا الاطار أن على الرغم من العداوة السابقة بين حزبي جنبلاط وجعجع وانخراطهما في مواجهات عسكرية كلفتهما دماء كثيرة، إلا أن جنبلاط الذي كان أبرم اتفاق المصالحة الشهير مع البطريرك صفير، وانضم إليها جعجع، أراد طي صفحة هذه المواجهات وقام بتوقيع العريضة النيابية لاطلاقه، الأمر الذي ساهم في انخراط جعجع لاحقاً في ثورة 14 آذار وخوض القواتيين الانتخابات النيابية التي جرت في العام نفسه وإيصال ستة نواب إلى البرلمان نتيجة خوض الانتخابات ضمن ما سمي في حينها “التحالف الرباعي”.

ورويداً رويداً استعاد جعجع وحزب “القوات اللبنانية” مكانتهما على الساحة السياسية حيث تحولا إلى رأس حربة مواجهة سياسة المحاور التي يقودها “حزب الله” لكن ضمن الأطر السياسية الديموقراطية وبعيداً عن المواجهة المباشرة، إلى أن بدأت “الزكزكة” المارونية تعمل عملها.

كثيرة هي النقاط الايجابية التي يمكن تسجيلها لصالح جعجع وقواته في معركة السيادة والاستقلال، والشفافية ونظافة الكف في الحكومات التي اشتركوا فيها، غير أن الطموح الشخصي والسباق على تزعم “المارونية السياسية” الجديدة كانت سبباً مباشراً في ارتكاب أخطاء سجلت عليه وساهمت بنسبة معينة في إيصال البلد إلى ما هو عليه اليوم، وبدأت يوم توقيع “اتفاق معراب” المشؤوم مع الرئيس عون وتسهيل وصوله إلى قصر بعبدا.

لقد ظل جعجع طيلة السنتين وخمسة أشهر التي تلت انتهاء ولاية الرئيس لحود، مرشح قوى 14 آذار للرئاسة في مواجهة تصلب “حزب الله” وحلفائه بترشيح عون، ولو لم يظن أنه قادر على اقتسام المكاسب السياسية من خلال اتفاق معراب، لربما بقي البلد من دون رئيس لمدة مساوية، وربما كان ذلك أفضل من وصول “العهد القوي” المشؤوم.

حسابات “دكنجي” ضيقة كانت وراء توقيع هذا الاتفاق الذي غطي بمقولة انهاء الاقتتال المسيحي الداخلي، لكن كشف تفاصيله لاحقاً بعد تسريبه من رئيس “التيار الوطني الحر” النائب جبران باسيل، فضح المستور ودفع جعجع إلى التراجع عنه وبدء مرحلة المعارضة لعهد عون.

جعجع المتمسك باتفاق الطائف ودفع ثمن ذلك الكثير الكثير، يبدو اليوم على أهبة الانقاض عليه وهو كان واضحاً في قوله عبر إطلالته الاعلامية أن “النظام الحالي” انتهى، فعلى ماذا استفاق اليوم؟

هل أصبح من مؤيدي الدعوات “الخنفشارية” من تقسيم، أو فدرلة أو كونفديرالية، وعلى الرغم من نفيه ذلك إلا أنه أصر على موقفه بأن النظام الحالي لم يعد صالحاً؟

لم يتمكن جعجع من المحافظة على العلاقة الوطيدة التي جمعته بالرئيس سعد الحريري وتيار “المستقبل”، وظن أنه قادر على استقطاب “الجمهور السني” بعد تعليق الحريري عمله السياسي، والذي كانت “نميمة” جعجع سبباً مباشراً في قراره.

هل يريد قطع “شعرة معاوية” التي لا تزال تربطه بـ “الصديق” وليد جنبلاط بعدما وجه رسالة إلى الثنائي الشيعي بعدم المراهنة على تحول جنبلاط لصالح انتخاب رئيس تيار “المردة” سليمان فرنجية للرئاسة؟

أغلب الظن أن نسبة المصداقية التي يتمتع بها جعجع لدى الثنائي الشيعي هي في أدنى الدرجات ولذا فإن محاولته “دق اسفين” بين جنبلاط والثنائي لن تنجح، لا سيما أن جنبلاط إن إراد إطلاق موقف أعلنه بوضوح ومن دون مواربة، وإن أحس أنه أخطأ فلديه الجرأة الأدبية ليتراجع عنه علانية أيضاً.

لم يعتد اللبنانيون النفس الاستسلامي الذي ظهر به جعجع مؤخراً، لا مؤيدوه ولا معارضوه، لكن الطروح التي أطلقها وخصوصاً ذلك المتعلق بإنشاء شبكات إنتاج كهرباء، ناهيك عن “التفكير في تغيير النظام” خطيرة وتعيد البلاد إلى الوراء وتزيد من تعقيدات الأزمة التي يمر فيها البلد، فهل يحق لنا أن نسأل ما الذي استجد في جعبة جعجع وإلى أين يريد الذهاب بالبلد؟

شارك المقال