هل يلفظ التحقيق في انفجار مرفأ بيروت أنفاسه الأخيرة؟

جورج حايك
جورج حايك

لا تُعد ولا تُحصى الضربات التي تلقاها التحقيق في انفجار مرفأ بيروت منذ البداية حتى اليوم، ومن المؤكّد أن فريقاً سياسياً لبنانياً وتحديداً الثنائي الشيعي عَمِلَ من دون كلل وملل لعرقلة هذا التحقيق وشلّه. ويبدو أنه حقق أهدافه حتى الآن، بدليل أن القاضي طارق البيطار كُبّلت يداه ولم يعد قادراً على التقدّم إلى الأمام لمواصلة التحقيق وإصدار القرار الظني.

فالحرب التي أُعلنها “الثنائي” على نحو مريب بدأت بالضغط لتنحية قاضي التحقيق الأول فادي صوان بعدما إتّهم بخرق الدستور لأنه إدّعى على وزيرين سابقين ونائبين في البرلمان، متذرعين بأنهما يتمتعان بحصانة دستورية ويفترض أن تمرّ ملاحقتهما في مجلس النواب! بعدها رفض المسؤولون الذين طلبهم القاضي البيطار للإستجواب الإمتثال، ثم تعرّض البيطار للتهديد من المسؤول عن وحدة الارتباط في “حزب الله” وفيق صفا. ولم تنتهِ مشكلات التحقيق بعدما اختلف النائب العام التمييزي غسان عويدات والبيطار، فقام الأول بإطلاق سراح جميع المحتجزين في قضية انفجار مرفأ بيروت، قبل أن يُصدر النائب العام العدليّ صبّوح سليمان قراراً بتعليق تنفيذ مذكرة توقيف في حق وزير الأشغال السابق يوسف فنيانوس في هذا الملف. وترافق ذلك مع بلبلة، نتيجة اتهام الصحافي الاستقصائي رياض طوق لسليمان بأنه قبض ثمن هذا القرار مسبقاً من خلال تحويلات مالية قام بها إلى سويسرا عام 2020 في وقت كان القاضي سليمان نفسه، بوصفه محامياً عاماً تمييزياً، يتولى ملف التحويلات المصرفية إلى الخارج التي جرت بين 17 تشرين الأول و31 كانون الأول من العام 2019 على الرغم من إقفال المصارف على وقع ثورة 17 تشرين من ذلك العام!

كل ما حصل حتى الآن يمكن وصفه بالانقلاب على مفاهيم العدالة يقوده الثنائي الشيعي، مستغلاً نفوذه أو تخويفه لبعض القضاة، والهدف تدمير التحقيق لكسر أيّ إرادة أو إمكان الوصول إلى العدالة في هذه القضية كما سائر القضايا، وربما استفاد الثنائي من انشغال الرأي العام بالحرب الدائرة في لبنان والمنطقة لتحقيق مآربه.

من الواضح أن هناك محاولات لإفراغ ملف التحقيق من عناصره، ويوافق عضو تكتل “الجمهورية القوية” النائب جورج عقيص على أن “كل شيء يوحي بأن هناك إرادات عالية جداً تريد أن تُنهي التحقيق في قضية انفجار مرفأ بيروت لعدم التوصّل إلى نتيجة وعدم معرفة الحقيقة. لكن من حق الضحايا وذويهم والمصابين والمتضررين معرفة حقيقة ما حصل وتحميل المسؤوليات، من ثم معاقبة هؤلاء فعلياً، لأننا اعتدنا أحياناً معرفة الحقيقة من دون فرض عقاب، وفي غالب الأحيان لا تُكشف هذه الحقيقة، وبالتالي لا يُمكننا الكلام عن عدالة من دون معرفة الحقيقة ومعاقبة الفاعلين”.

لا يرى عقيص أن كثافة تقديم طلبات المخاصمة والتنحية في وجه المحققين العدليين طبيعية بل كانت مقصودة لعرقلة التحقيق، ويشير إلى أن الجهة المختصة لم تستطع البت فيها لأن وزير المال في حكومة تصريف الأعمال يوسف خليل رفض توقيع مرسوم تعيين رؤساء محاكم تمييز أصيلين، ما يحول دون تشكيل الهيئة العامة. إضافة إلى ذلك هناك انقسامات في مجلس القضاء الأعلى للمرة الأولى في تاريخ العدلية ناجمة عن هذه القضية، إلى تجاوز لصلاحيات مراجع قضائية أبرزها قيام النيابة العامة بإخلاء سبيل الموقوفين، علماً أن هذه صلاحية قصرية لقضاة التحقيق وخصوصاً المحققون العدليون في القضايا المحالة على المجلس العدلي. وأخيراً استرداد مفاعيل مذكرات التوقيف التي تعود صلاحياتها الحصرية إلى قضاة التحقيق والمحققين العدليين.

وعلى طريقة تشخيص الداء ووصف الدواء، يؤكّد عقيص أن هناك حلين لمواجهة هذه العراقيل والأساليب المنحرفة: الأول وضع حد لطلبات المخاصمة في وجه القاضي البيطار والدعاوى المُساقة ضده، فيتحمّل القضاء اللبناني مسؤوليته في هذا السياق، وأن يتقدّم ذوو الضحايا أي المتضررون من قرار حجب مرسوم التشكيلات، بمذكرة ربط نزاع مع وزير المالية ثم الطعن أمام مجلس شورى الدولة في قراره بالإمتناع عن توقيع مرسوم التشكيلات.

أما الحل الثاني فيقضي بأن يُصدر القاضي البيطار القرار الظني، فيوجّه الضربة الأخيرة وليحصل ما يحصل، وربما بهذه الطريقة يُخبر الناس بالحقيقة كما تثبّت منها. ويلفت عقيص إلى أن من حق أهالي الضحايا أن يعرفوا الحقيقة وخصوصاً من قاضي التحقيق الذي تعمّق في الاستجوابات والأدلة.

في المقابل، يجد أهالي الضحايا أنفسهم في مواجهة المجرمين الذين أتوا بنيترات الأمونيوم والمسؤولين الذين أهملوا وجودها في المرفأ، وهم يشعرون اليوم أن هناك استهتاراً بدماء الضحايا، ويُغضبهم نهج الانقلاب على الاجراءات القضائية وأبسط المفاهيم القانونية، وأبرزها الاصرار على التعدّي على صلاحيات المحقق العدلي. لكن وليم شقيق الشهيد جو نون الذي لم يوفّر جهداً مع الأهالي للوصول إلى الحقيقة، وغالباً ما اصطدم بالسلطة الجائرة، يعتبر أنه لا يمكننا التسليم بأن التحقيق يلفظ أنفاسه الأخيرة، ونحن نعرف أن التحقيق بأي قضية في القضاء تتخلله “طلعات ونزلات” وضغوط، والأهم أن القضية لا تزال في يد القاضي البيطار. وقد استبشر الأهالي خيراً عندما حرّك الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف في بيروت القاضي حبيب رزق الله، المياه الراكدة في ملف انفجار مرفأ بيروت، حين وجه كتاباً إلى القاضي غسان عويدات، يطلب بموجبه تصحيح ادعائه على المحقق العدلي البيطار بجرم “انتحال صفة محقق عدلي”، حتى يتمكن من استجوابه، لكن خطوة رزق الله لم تلقَ تجاوباً من عويدات الذي طعن بها.

ويعترف نون بأن العرقلة تأتي من الثنائي الشيعي والضغط من النيابة العامة التمييزية، إلا أنه يؤمن بأن مجرد عودة البيطار إلى مواصلة مهامه تمكنه من أن يرد كل ما خسرناه خلال 8 أشهر. ويشير إلى أنه والأهالي ينتظرون من القاضي البيطار أن يُصدر القرار الظني ما سيعيد القضية إلى الواجهة ويُبرّد قلوب الأهالي.

ويبقى التحقيق الدولي الأمل الأخير بالنسبة إلى الأهالي إذا استمرت العراقيل، ويلفت نون إلى أن الأهالي لم يتوقفوا عن مساعيهم في هذا المجال منذ عام ونصف العام، وكانت الأنظار شاخصة إلى قرار من مجلس حقوق الانسان في الأمم المتحدة، إلا أن حرب غزة أدت إلى تأجيل جلساته التي كانت ستبتّ في أن انفجار المرفأ جريمة ضد الانسانية أو لا.

يُدرك نون والأهالي أن وضع القضاء اللبناني صعب، إلا أنهم لم ييأسوا ويعملون مع بعض نواب المعارضة ومكتب المحامي الدولي والوزير السابق كميل أبو سليمان في بريطانيا وجمعيات مدنية وأهلية للإنتقال إلى القضاء الدولي.

وسيستمر الأهالي في تحركاتهم الشعبية، ومن المتوقع أن يكون لديهم نشاط ضاغط الثلاثاء المقبل، وتركيزهم لبنانياً سيكون على إصدار المحقق العدلي القرار الظني من جهة، ودولياً على نقل القضية إلى القضاء الدولي من جهة أخرى، والأهم أن تبقى قضية انفجار مرفأ بيروت في الذاكرة الوطنية الجامعة.

شارك المقال