انتصار آخر لـ “حزب إيران”: ما بعد 4 آب أفظع مما قبله 

عبدالوهاب بدرخان

كان ينبغي أن يكون التحقيق في انفجار مرفأ بيروت أو تفجيره، بعد مرور عام على الكارثة، قد توصّل إلى نتائج أولية تحدّد المسؤوليات منذ وصول باخرة النيترات واحتجازها ثم تفريغ حمولتها وبعد تخزينها من دون التعامل مع خطورتها، فضلاً عن سحب ما يقارب ثمانين في المئة منها لمصلحة النظام السوري و”حزب إيران/ حزب الله”، بدليل البراميل المتفجّرة التي قتلت السوريين والكميات التي صودرت في مخابئ لخلايا “الحزب” في دول أوروبية عدة.

كان ينبغي أن تكون منظومة السلطة الجهة الأكثر حرصاً على تقديم كل التسهيلات للمحقق العدلي، الأول والتالي، بعدما رفضت بحزم وتعنّت التحقيق الدولي الذي طالب به المتضرّرون وسائر اللبنانيين المتألمين بصدق، فضلاً عن بعض القوى السياسية. لكن أطراف المنظومة تكالبت، ولا تزال حتى الآن، على كل مَن يسعى إلى الحقيقة، وأرهبت كلّ مَن يملك جانباً ولو بسيطاً من هذه الحقيقة، بل يُشتبه بأنها قتلت أشخاصاً تعتقد أن شهاداتهم قد تذهب أبعد مما جاء في التقارير التي رفعوها إلى رؤسائهم، ثم أنها تضامنت في نسج شبكة الصمت والتضليل والاختباء وراء “حصانات” كان يُفترض إعلانها ساقطة في اجتماع المجلس الأعلى للدفاع بعد ساعات على الانفجار، ذلك الاجتماع الذي أعلن بيروت “مدينة منكوبة” وفتح تحقيقاً قال إنه سيكشف معطياته “خلال خمسة أيام”. بيروت زادت نكبتها، والتحقيق لا يزال يُدفع نحو المتاهة.

بعد أسابيع قليلة من اغتيال رفيق الحريري عام 2005 كان هناك تصوّرٌ أولي عن تورّط “حزب إيران” في الجريمة، وعن توافق النظامين السوري والإيراني على تكليف “الحزب” بتنفيذ هذه العملية الآثمة. كان سلوك الأمين العام لـ “الحزب” ساهم، غداة الاغتيال، في التضليل وإبعاد الاشتباه والإيحاء بأنه وحزبه “مفجوعان” مثل سائر اللبنانيين. أما اكتشاف مؤشّرات التورّط فتطلّب بضعة أعوام، ولما أُبلغ بها تحوّل إلى وحش كاسر ولم يتردّد في اغتيال مَن نجحوا في تفعيل التحقيق ومدّه بالمعلومات التي مكّنت المحكمة الدولية من بناء اتهامها ثم حكمها، ولم يستطع “الحزب” تقديم أي دحض لتورّطه، أما الجهتان السورية والإيرانية اللتان أمرتا بالعملية فعمدتا تباعاً إلى تصفية الذين أشرفوا على تنفيذها.

في جريمة المرفأ لم يتطلّب اكتشاف دور النظامين السوري والإيراني و”الحزب” إياه سنوات بل أياماً. لماذا؟ لأن كلّ لبناني عادي، كما كلّ قاصٍ ودانٍ من الأجهزة الاستخبارية الصديقة والمعادية، كان يعرف أن “حزب إيران” مسيطر على المرفأ، وقد نبّهت إلى ذلك دولٌ عديدة، مشيرةً أيضاً إلى المطار وإلى الحدود البرّية.

لماذا؟ لأن الصغار والكبار في الأجهزة الحكومية “المسؤولة” كانوا يرون تحركات عناصره ويسهّلونها إما بأوامر وتعليمات مَن هم أعلى سلطةً منهم أو عملاً بنمط التغاضي السائد تجنّباً لمتاعب ومضايقات من صاحب السلطة الفعلية، “الحزب”.

لماذا؟ لأن سلوك “الحزب” وعناصره وحلفاءه، داخل المرفأ منذ لحظة الانفجار والساعات والأيام التالية، كان فظّاً ومربَكاً، كذلك سلوك جميع المحسوبين على الدولة – أصحاب “الحصانات” – لكن العاملين فعلياً في خدمته، وسلوك السياسيين وأشباه السياسيين الدائرين في فلكه. كانوا جميعاً قلقين من نغمة التحقيق الدولي التي تصاعدت سريعاً، فثمة “سرٌّ” معلن على وشك أن يصبح اتهاماً، وثمة تواطؤٌ كان مجزياً لكثيرين قبل أن يصبح مكلفاً، بل قاتلاً. كان الأمر يتطلّب أن يكون هناك في أعلى هرم السلطة مَن لديه ضمير حيّ وشيء من الاحترام للشعب وللدولة، لكن “الحزب” قتل أي حسّ وطني، متحسّباً مسبقاً لأي مفاجآت.

ولماذا؟ لأن سيلاً من التقارير والمذكرات التي تنبّه إلى خطورة نيترات الأمونيوم لم يحثّ شخصاً واحداً على التحرّك، ولم يصادف أحداً مستعدّاً لتحمّل المسؤولية من أعلى هرم السلطة، أو ممن يتولّون منصباً قياديًّا في السلطات السياسية والقضائية والعسكرية والأمنية، بل راح الجميع يتراشقون الملف لئلا يحرق أصابعهم، إلى أن حرق قلب العاصمة وقتل من قتل وأصاب مَن أصاب ودمّر ما دمّر وهجّر مَن هجّر، تاركاً مئات الآلاف يشعرون بأنهم يعيشون كمجرّد ناجين أو عائدين من موت محقّق.

كان ينبغي اليوم، بعد مرور عام، أن يكون المرفأ في ورشة إعادة بناء وتأهيل، لكن منظومة السلطة فضّلت إبقاء البلد بلا حكومة، لتتبدّد كل العروض الجدّية لإنهاض المرفأ من رماده كأنها لم تكن. وفضّلت أن ينهض ميناء حيفا بديلاً منه، وأن يبقى لبنان بلا أصدقاء أو منفّراً لهم، وأن يكون اللبنانيون بلا كهرباء وقريباً بلا ماء، بلا دواء ولا وقود، وأن لا تولد أي حكومة إلا إذا ضمن حزبا المنظومة (“التيار العوني” و”حزب إيران/ حزب الله”) إمكان التلاعب بالانتخابات إذا قدّر لها أن تُجرى عبر وزارة الداخلية، وإمكان إخفاء ملفات الفساد أو تسييسها عبر وزارة العدل.

كثيرون ظنّوا أن انفجار مرفأ بيروت سيكون محطةً فاصلة، أو أنه سيُحدث انقلاباً، ليس فقط في تحسّس المسؤولية، ولا في اغتنام التعاطف الدولي العارم مع لبنان، ولا في بذل كل جهد لمساعدة التحقيق على ملاحقة أي متورّط أو مقصّر أو مهمل، بل أيضاً وخصوصاً في العقل السياسي البالي الذي يدير منظومة السلطة. لكن كلّ ذلك كان أوهاماً في أوهام، فقد نجح حزبا المنظومة في جعل ما بعد 4 آب كما قبله، بل أسوأ مما قبله، لأن عقلها مرتهن لدى “الحزب” في طهران، ولأن “الحزب” اعتبر أن الانفجار كان مجرد حادث لن يغيّر شيئاً في مشروعه.

شارك المقال