وقف الحرب في غزّة: إيران مع وضدّ… حسب الظروف!

عبدالوهاب بدرخان

أحرزت إيران الكثير من النجاحات على هامش الحرب الإسرائيلية على غزّة، ولا تزال لديها أوراق تلعبها على الرغم من النكسات “البسيطة” التي أصابتها، إما باغتيال ضباطها في سوريا، أو بـ “الأخطاء” التي اضطرّتها للاختباء وراء ميليشياتها، أو بالضربات التي تلقتها وستتلقاها تلك الميليشيات. وفيما استطاعت إيران أن تظفر بإقرارٍ من الولايات المتحدة بأنها “لا تريد حرباً” معها، إلا أن هذه “الطمأنة” الأميركية على أهميتها لم تُترجم بمصالح لطهران، ثم انها لا تسري على “الوكلاء”، بدءاً من “حماس” و”الجهاد” في غزّة، الى سائر الميليشيات في لبنان وسوريا واليمن والعراق. وإذ اعتبرت إيران لوهلة أنها اقتربت من تحقيق أحد أهم أهدافها بفرض انسحاب أميركي من العراق، فإنها تدرك أكثر من سواها “كلفة” ما بعد هذا الانسحاب عليها، كما أن “ما بعد حرب غزّة” في مناطق نفوذها لن يكون كما قبلها.

كانت الضربات الأميركية – البريطانية للحوثيين في اليمن أدّت الى تمكين هذه الميليشيا من طرح نفسها ممثلة وحيدة ولو غير شرعية لليمن، وإلى ترقيتها في مراتب فصائل “المقاومة” التي يديرها “الحرس الثوري” الإيراني في البلدان الأربعة التي باتت تشكّل “محور الممانعة” بقيادة إيران. لم تكن طهران، الداعمة للحوثيين، الأولى في إدانة تلك الضربات أو استنكارها، بل سبقتها عواصم أخرى كموسكو وبكين ومسقط، وحتى دمشق وبغداد، واستطراداً بيروت في سياق الورشة الديبلوماسية الرامية الى تهدئة جبهة الجنوب، إذ طالب رئيس الحكومة “انطلاقاً من عروبتنا ومبادئنا” بـ “أن يُصار في أسرع وقت ممكن الى وقف اطلاق النار في غزّة بالتوازي مع وقف إطلاق نار جدّي في لبنان”.

إذا أضيف الى تلك المواقف تحفّظ القاهرة وعواصم الخليج والاكتفاء بالإعراب عن “قلق بالغ” من التصعيد في البحر الأحمر، يمكن القول إن ثمة قاسماً مشتركاً تشكّل في ما بينها، وإنه تمثّل، أولاً، بالضغط على واشنطن وإسرائيل من أجل وقف اطلاق النار في غزّة، وهذا يلتقي مع رأيٍ عامٍ عالمي وجهود ديبلوماسية أحبطها “الفيتو” الأميركي والدعم الغربي المطلق للوحشية الإسرائيلية. وقد سعى، ثانياً، الى عدم توسيع نطاق الصراع الى جبهات أخرى، وهو هدف تحرّك ديبلوماسيون ومسؤولون أميركيون وأوروبيون في كل اتجاه لتحقيقه، ثم تبيّن أنهم يعملون فقط على “حماية” استمرار الحرب الإسرائيلية على غزّة… وهكذا صار هناك منطق عربي واقليمي اعتبرت إيران نفسها رائدته، لأن تحريكها ميليشياتها من جنوب لبنان الى باب المندب، مروراً بغرب العراق – شرق سوريا، وُضع في خانة التضامن مع غزّة، وظهر كأنه أكثر فاعلية من الجهد الديبلوماسي العربي والدولي لوقف الحرب، لكنه، واقعياً، لم يحقّق شيئاً لغزّة وأهلها ولم يردع إسرائيل عن مواصلة التقتيل والتدمير ولم يدفعها الى التفكير في وقف إطلاق النار، بل وسّع الصراع لمصلحة المشروع الإقليمي لإيران والمكاسب لميليشياتها.

لكن، بعد مضي نحو أربعة شهور على الحرب، وظهور اتجاه أكثر جديّة الى وقف إطلاق نار ولو موقّت في غزّة، شعرت إيران بأن هناك سعياً الى انهاء الحرب من دون أن تكسب استراتيجيتها أي مصلحة جديدة أو تحصل على أي تنازل في الملفات العالقة بينها وبين الولايات المتحدة. أكثر من ذلك، ترافق الاقتراب من نهاية الحرب على غزّة مع تزايد الاغتيالات لـ “مستشاريها” في سوريا والضربات على مواقع ميليشياتها في العراق كما في سوريا، لذا قررت إيران أن تردّ بنفسها فارتكبت خطأَين في القصف على أربيل وباكستان وتسبّبت في أزمتين توجّب عليها أن تتحرك سريعاً لاحتوائهما، مستعينة بالصين لتهدئة غضب اسلام أباد. ثم جاءت ضربة الطائرة المسيّرة لقاعدة أميركية في الأردن فنأت طهران بنفسها عنها لكنها تلقّت تحذيراً أميركياً اضطرّت لأخذه في الاعتبار وأوفدت إسماعيل قآني الى بغداد ليأمر الميليشيات بالتهدئة وإخلاء مقارها، وعلى الرغم من أن “كتائب حزب الله” أصدرت بيان تعليق عملياتها تجنّباً “لإحراج الحكومة”، إلا أنها وغيرها من الميليشيات لا تزال تترقب الردّ الأميركي. بل إن طهران أقدمت على سحب أعداد من ضباطها من شرقي سوريا لتُحلّ محلّهم عناصر من “حزبها” اللبناني.

ومع تأكيد وجود مسودة اتفاق لهدنة طويلة في غزّة، واضطرار إسرائيل للبحث في قبول “الصفقة” لاستعادة الرهائن والافراج عن أسرى فلسطينيين، كذلك اضطرار “حماس” لقبولها آملةً بتحسينها لاحقاً من هدنة الى “وقفٍ للعدوان”، بدت إيران أقرب الى معسكر ليكود- اليمين المتطرّف في سعيهما الى تخريب الاتفاق لمواصلة الحرب. فكما أن إيران لم تعتبر نفسها علناً جزءاً في التيار العالمي المطالب بوقف إطلاق النار، كذلك لم تجد نفسها مضطرّة لأن تغادره علناً لكنها راهنت على انقسام الرأي حيال الهدنة داخل حكومة العدو. الواقع أن إيران كانت “مرتاحة” الى استمرار الحرب على غزّة، إذ يتيح لها مواصلة إدارة الحرب خارجها باسم مساندة غزّة لترسيخ نفسها قوة إقليمية لا يمكن تجاهلها عندما يحين وقت الحلول السياسية. غير أن التطورات الجارية تعني لطهران أنها بدأت تخسر استراتيجياً، كيف؟ واشنطن تحاول بناء خطة لما بعد الحرب بالتشاور مع العرب، ولا ترى أي خطة عملية من دون مشاركة عربية، ولكي تجتذب هذه المشاركة وضعت على الطاولة للمرّة الأولى ورقة “الاعتراف بدولة فلسطينية”، لكن مقابل تطبيع عربي مع إسرائيل…

صحيح أن هذه الخطة يكتنفها الكثير من الغموض والعقبات والعُقد، وينبغي استباقها بكثير من المراجعات الذاتية (الأميركية والغربية والإسرائيلية)، إلا أنها ترسم خريطة طريق، أولاً لوقف الحرب، وثانياً لسحب الملف الفلسطيني من إيران، وثالثاً لدفع الاعتراف بالدولة الفلسطينية كـ “ثمن للتطبيع العربي”، ورابعاً لوضع إسرائيل أمام خيار ترويض تطرّفها لتندمج في الإقليم كأفضل وسيلة لحماية أمنها. وبطبيعة الحال فإن هذه الخريطة ستكون قابلة للتخريب، وفي هذا المجال ستعود إسرائيل وإيران الى الالتقاء موضوعياً سواء في رفض الدولة الفلسطينية، أو في مواصلة العمل على تعديل موازين القوى الإقليمية. لكن توافق الأطراف الدولية علناً، والعربية ضمناً، على اقصاء “حماس” وسائر الفصائل المسلّحة عن السلطة في غزّة، يشكّل نموذجاً لما ينتظر ميليشيات إيران حيثما كانت. فمع هذه الميليشيات لا يمكن حتى تخيّل أي إعادة اعمار في غزّة، أو استقرار أو وضع طبيعي في لبنان ولا في اليمن وسوريا ولا حتى في العراق.

شارك المقال