كان واثق الخطوة والقول والفعل… حوّل الأقدار الى تاريخ

لينا دوغان
لينا دوغان

“البلد ماشي، والشغل ماشي، والحكي ماشي، ولا يهمك”… كلمات دندنها رفيق الحريري من واقع كان يعيشه ويعايشه خلال فترة وجوده في الحكم، كان همه الوحيد أن تمشي أمور البلد على الرغم من كل العراقيل التي أحاطت بمشروعه الكبير الذي خطط له وهو إعادة لبنان على خريطة العالم دولة لها ثقلها ودورها على جميع الصعد.

لم يكن الرئيس الشهيد يريد الخصومة مع أحد، على الرغم من خصومه الكثر. لم يكن يريد العداوة مع أحد، على الرغم من ازدياد أعدائه كلما زاد نجاحه. لم يكن همه سوى البلد بشراً وحجراً، إعماراً وإنماءً، إزدهاراً وتطوراً.

وفي حديث خص به “لبنان الكبير”، قال مستشار الرئيس الحريري للشؤون المسيحية الدكتور داوود الصايغ: “إن الرئيس الشهيد دخل مجال الشأن العام ولا أقول السياسة، من باب الانسان، وهذا ما يميزه عن غيره من القادة، لذا فإن رؤيته منذ البداية كانت واضحة والانسان الذي نما فيه منذ نشأته حتى استشهاده، حماه من السياسة التي لا ترحم”.

رفيق الحريري الانسان الذي حمى لبنان بصدره، وتحمل وحده كل ما أحيط به من مكائد في السياسة حتى لحظة استشهاده، حمل معه الكثير والكثير من الأسرار الى ضريحه لتبقى هناك وتشهد على ما اقترفته أيديهم بمن عمل في صمت ليحيا البلد.

اكتشف الجميع أن الرئيس رفيق الحريري الحامل لمشروع كبير ولرؤية مستقبلية، عمل فعلاً لراحة البلد وليس لراحته الشخصية كما اتهمه كثيرون، فهو كان يسعى ويخطط لتخطي كل العقبات والعوائق التي كانت تقف في طريق نجاح أحلامه. وهنا أشار الصايغ الى نقطة مهمة جداً، هي أن ما زاد في قوة رؤية رفيق الحريري قدرته على وضعها موضع التنفيذ، والثقة صفة لازمته طيلة فترة وجوده في الحكم وحتى استشهاده، فهذه الثقة عمل على إحيائها في نفوس اللبنانيين ورفض الاستسلام وعمل على تحريرهم من كل أنواع الركام، وقال للبنانيين عبر مشروعه إن الوقت حان لدفن الماضي والتطلع الى المستقبل.

لا يمكن اختصار مشروع رفيق الحريري بالاعمار وحده ولا بالاقتصاد وحده ولا بالتنمية وحدها ولا بالمواطن وحده، مشروعه سلة متكاملة لا يمكن فيها فصل أي عنصر عن الآخر، وعلنا نسمّي هذا المشروع برأي الصايغ، إعادة التأسيس وليس إعادة الاعمار، فالرئيس الشهيد ولنجاح مشروعه اهتم بالعديد من النقاط، اذ عمل على النهوض بالاقتصاد في بلد منهار وعلى تحصين الوضع الاقتصادي – المالي وإعادة إحضار لبنان في المجال الدولي، من مؤتمرات “باريس ١” ثم ٢ ثم ٣ الى مؤتمر أصدقاء لبنان قبل ذلك عام ١٩٩٦ في واشنطن واتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي والاتصالات مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي الى المؤتمرات والندوات، والعمل على جعل بيروت مركزاً للمؤسسات الدولية.

قال كلمته الشهيرة للشباب خصوصاً أي مستقبل البلد: ان وطنكم ليس فندقاً بخمس نجوم، تتركونه عندما تتغير نوعية الخدمات، لأنه كان يعرف أن الاوطان تبنى بالعطاءات والجهد، ولبنان مثال حي لمعجزة النهوض، بعدما حذفه الكثيرون في المجتمع الدولي عن الخريطة.

وليمشي البلد وتمشي أمور الناس فيه ويعيشوا مرتاحين، حمل رفيق الحريري بشخصه وبكل ما أوتي من قوة علاقات ربطته بكبار رجالات العالم، حمل مشروعه هذا اليهم، واجتمع الى معظم مقرري العالم في حينه شرقاً وغرباً، من الملوك والرؤساء العرب الى قادة أميركا وأوروبا وخصوصاً الرئيس الفرنسي جاك شيراك.

أما البابا يوحنا بولس الثاني، يقول الصايغ، فالتقاه لأول مرة في نيسان ١٩٩٣ بعد أقل من ستة أشهر على تبوؤه السلطة لايمان رفيق الحريري، أن الوفاق الاسلامي – المسيحي هو من أساسات الكيان الراسخة، فقال له البابا حينها: أنت المسؤول، وقد وجد فيه رجلاً من طينة بناة الأوطان.

حمل رفيق الحريري من بين أثقاله هم الناس من مختلف الطوائف، فعمل أيضاً مع جميع الأطراف لخلق جو من الالفة والمحبة ينهي تاريخ الحرب الطائفية، ويفتح صفحة جديدة من تاريخ علاقات الطوائف في البلد، وهي واحدة من النقاط الأساسية في لبنان وبناء الانسان فيه إن لم تكن الأهم.

ومن هذه الرؤية للواقع البشري في لبنان أضاف الصايغ، كانت لقاءاته الدورية مع البطريرك الماروني نصر الله بطرس صفير وسائر الرؤساء الروحيين المسيحيين اضافة الى الجامعات المسيحية والوجوه الفكرية والعلمية.

عرّاب الطائف أصر على تطبيقه ولو بما استطاع، لأن الكل بات يعلم، العدو قبل الصديق، أن رفيق الحريري حورب بالطائف بعد الطائف، أي أن الدولة الشقيقة التي وافقت على اتفاق كهذا لم تترك له المجال لتطبيق بنوده، لكن لم يستسلم، وأصر على موضوع تطبيق صيغة العيش المشترك والذي ما من مسؤول قبله أو بعده تحدث عنه بهذا الاهتمام والرعاية، فأصر على موضوع المناصفة في بلدية بيروت، انطلاقاً مما تقرر في الطائف.

ختم الصايغ حديثه لـ “لبنان الكبير” بالقول: “إن الكلام عن رفيق الحريري لا ينضب، لأنه بات من الشخصيات القليلة في تاريخ لبنان الحديث، ومن القلائل الذين حوّلوا الأقدار الى تاريخ”.

لرفيق الحريري نقول: قليل ما كتبناه بحقك في هذا المقال، لكنك تعرف تماماً أنهم كلهم عرفوا قيمتك بعد استشهادك، وأنك لم تكن تريد أسلمة البلد ولا جعله مسيحياً فقط، وكنت تريد الوحدة الدائمة بين السنة والشيعة وتريد للدروز أن يكونوا موجودين بين أهلهم في الوطن لا أن يشعروا بالعزلة. كنت تريد بلداً حضارياً راقياً نتكلم فيه لغة واحدة وهي لغة المواطنة وليس لغة الطائفية، فكما قلت “ما حدا أكبر من بلده” وذهبت بعدها وتركت البلد لقدره البعيد عن حلمك.

الأكيد أن من يحبك اشتاق اليك، لكن المؤكد أن من يحبك ومن لا يحبك اشتاق الى أن يعيش حلمك ببلده.

شارك المقال