رفيق الحريري… كرّس علاقته بصفير وعودة لتعويض الفراغ المسيحي

زياد سامي عيتاني

رأى اللبنانيون، بعد سنوات من الحرب المدمرة، جعلتهم يسقطون من تفكيرهم إمكان إستعادة لبنان عافيته، في رفيق الحريري القادم ناجحاً من عالم الأعمال إلى الحياة السياسية، أملاً جديداً. فقد اكتشفوا مبكراً أنه كرجل أعمال يتميّز بالفاعلية والسرعة في التنفيذ وبالواقعية، وبالتالي فإن رجل الأعمال الذي كانه، تطوّر إلى رجل دولةٍ حقيقي من خلال دوره الصامت مع عواصم القرار والداخل اللبناني لإنهاء الحرب العبثية، والذي برز خلال مؤتمري “لوزان” و”جنيف”، قبل أن يكون له الدور الفاعل في إبرام “إتفاق الطائف”.

لقد جسد الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي وصف بأنه مهندس إعادة إعمار لبنان إرتباطه التنموي بوطنه لبنان، عندما أخذ على عاتقه رفع الأنقاض والدمار والخراب التي خلفها الاجتياح الاسرائيلي عام 1982 إذ أسس شركة “أوجيه لبنان” للقيام بهذه المهمة. ورافق ذلك إنشاء مكاتب ومؤسسات طبية وتعليمية أخذت على عاتقها تعليم أكثر من 30 ألف طالب جامعي داخل لبنان وخارجه. كما حرص على إنشاء صلات مباشرة بالمجتمع اللبناني عبر عطاءاته ومساعداته الاجتماعية والتعليمية والصحية وإعادة البناء والاعمار بعد الحرب.

وبعدما رعى “اتفاق الطائف” عام 1992 أنشأ الحريري مجلس الانماء والاعمار تحت شعار “إنماء الحجر والبشر”، وبدأ بورشة عمل ضخمة لاعادة البنى التحتية بهدف استرجاع دور لبنان الاقتصادي في المنطقة. واعتمد الرجل لتنفيذ شعاره على نظام الخدمات والسياحة وتطوير الأداء لتمكين لبنان من اللحاق بركب التطور الذي تجاوزه خلال سنوات المحنة الطويلة، وامتدت مشاريع الاعمار إلى معظم القطاعات الاقتصادية الحيوية، فأعاد بناء شبكات المياه والمواصلات والاتصالات كي يبقي هذا البلد قريباً من العالم الخارجي. لكنه، بعد شهرين على رئاسته الحكومة سنة 1992، أدرك مساوئ الحياة السياسية اللبنانية وفسادها المستشري، الا أنه لم يكن يملك خياراً آخر سوى التعامل مع أمراء الميليشيات الذين دخلوا الحكومة ومؤسسات الدولة بقوة تصعب مقاومتها.

كان يتميز بقدرته بكل تواضع على الاستماع والاصغاء إلى كبار الساسة ورؤساء الدول، وحتى إلى صغار المخبرين في الصحف، لإدراكه أن فئات واسعة من اللبنانيين تراهن على حضوره في لبنان وفي العلاقات الدولية. وهذا ما كان يزعج كثيرين من أهل الضغائن السياسية المحلية، فضلاً عن الراعي الاقليمي!

منذ أن حلّت المرجعية السورية محل “اتفاق الطائف” والدستور في لبنان، كانت علاقة الرئيس الشهيد رفيق الحريري بالرئيس حافظ الأسد تسهّل تسيير الأمور في إطار ذلك الواقع القائم في البلاد، فكان يحرص على التنسيق الدائم مع القيادة السورية في القضايا “الاستراتيجية” من وجهة نظرها، خصوصاً وأنها كانت تستفيد من علاقاته الدولية في ما يخص قضاياها الحيوية على المسرح الاقليمي، حتى لقب بـ”رئيس حكومة لبنان، ووزير خارجية سوريا”، ما زاد من نقمة أجهزة داخل النظام السوري. وهذا ما يفسر حملات الأذى والمكائد والضغائن التي كان عرضة لها منذ اللحظة الأولى لتوليه رئاسة الحكومة حتى إستشهاده.

غير أن الحريري كان يتميّز بعدم قدرته على الأذى، وباستنكافه عن الرد على التُّهم والافتراءات، وبطاقة هائلة من التحمل، جعلته غير ملتفت إلى حملات الافتراء، مستعيضاً عنها بمزيد من الأعمال الجبارة لوطنه. وهذه ميزة قلَّ نظيرها بين أهل السياسة اللبنانيين في الحروب الأهلية وبعدها، وربما من سبقهم من القُدامى. فقد حرص رفيق الحريري ومن موقع رجل الدولة على الانفتاح والتواصل والتحاور مع مختلف القوى السياسية (الخصوم قبل الحلفاء)، حرصاً منه على التوازن الوطني بين جميع مكونات التركيبة الديموغرافية للبنان، رافعاً شعار: “أوقفنا العد”. ففي ظل تغييب رجال السياسة المسيحيين، الذين يتمتعون بصفة تمثيلية للشارع المسيحي، على الرغم من الخلاف السياسي العميق والجذري المبدئي مع بعضهم، وإنطلاقاً من هاجسه بحماية الوجود والدور المسيحي، تمكن بألمعيته السياسية، من أن يستعيض عن تغييبهم، ويعوّض الفراغ الذي تركوه، بأن يبني علاقة تواصلية دائمة ومتينة مع البطريرك الراحل مار نصر الله بطرس صفير، ومع المطران إلياس عودة، مكرّساً إياهما مرجعيتين وطنيتين للمسيحيين في ذلك الظرف الاقصائي لقياداتهم.

ولمزيد من الحماية للوجود المسيحي في لبنان، حرص على نسج علاقة وثيقة بالفاتيكان، فكان على تواصل دائم مع رأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم والدوائر المختصة بشؤون الشرق الأوسط، إلى جانب مستشاريه الدكتور داوود الصايغ والدكتور محمد السماك. وهذا ما يمكن إستشرافه بدقة من خلال عدد المرات التي التقى فيها الحريري بابا الفاتيكان، وكان محور اللقاءات يتركز على ضرورة المحافظة على لبنان الرسالة الفريدة في المنطقة. وبلغت ذروة هذا الدور للرئيس الشهيد في دعوة البابا الى زيارة لبنان في أحلك ظرف كان يعيشه مسيحيوه المحبطون من جراء الشعور بالإقصاء وتحجيم دورهم السياسي، بحيث بذل جهوداً جبارة لتهيئة ظروف الزيارة التاريخية للبابا الى لبنان وأجوائها، ما أعاد بث الروح للمسيحيين، الذين إستعادوا ثقتهم بمستقبل وطنهم.

هذا المنحى الوطني الميثاقي في أداء الحريري، دفع ببعض الأجهزة إلى إفلات أبواقه من المسيحيين لشن حملات مسمومة تتهم الحريري بـ “أسلمة” لبنان، والقضاء على الدور التاريخي للمسيحيين. لكن تلك الحملات لم تلقَ آذاناً صاغية لدى المسيحيين الواعين والعارفين ببواطن الأمور، لإدراكهم قناعات رفيق الحريري وتوجهاته الوطنية، وحرصه الشديد على أن لبنان لا يستقيم الا على قاعدة التوازن الوطني التعددي لمختلف الفئات اللبنانية.

هذا التوجه الوطني للرئيس رفيق الحريري، الذي أظهره على حقيقته كرجل دولة لبناني، كان سبباً اضافياً للاغتيال الثأري والحقود والمروّع، الذي كان اغتيالاً للوطن.

شارك المقال