رفيق الحريري مدرسة الوطنية والسلم الأهلي

الدكتور خطار أبودياب

تسعة عشر عاماً مرت على اغتيال رفيق الحريري رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق، وكان هذا الحدث الذي هز لبنان والمشرق أشبه بزلزال. أتى آنذاك الرد الكبير في تجمع شعبي غير مسبوق لغالبية اللبنانيين في ساحة الشهداء وسط بيروت بعد شهر على الحدث وذلك في الرابع عشر من 2005، وأسفر عن هذا الحراك السلمي خروج القوات السورية بعد ثلاثة عقود من وجودها في لبنان.

وبالفعل كان الرابع عشر من آذار فرصة تاريخية مهدورة، لأنها كانت لحظة إعادة تأسيس الفكرة اللبنانية (أو الاستقلال اللبناني) التي لم تستكمل، بسبب ممثلي إحدى كبرى الطوائف اللبنانية ولعب “حزب الله” دور البديل المحلي عن الوصاية السورية.

لم يحن بعد الوقت للإحاطة الدقيقة بخفايا تلك المرحلة من تاريخ لبنان والجوار، بيْد أن بإمكاننا ربطها بحرب العراق في 2003 وتتماتها. منذ تلك اللحظة بدأ الكلام عن إعادة تركيب الشرق الأوسط وبرز الى العلن ما أسمته واشنطن “الشرق الأوسط الديموقراطي الكبير” أو”الفوضى الخلاقة” بينما كَمنت طهران – المستفيدة مليّاً من حربي بوش الابن في أفغانستان والعراق – وأخذت تعمل لتركيب ما أسماه يوماً العاهل الأردني “الهلال الشيعي”، وذلك بعد فشل مساعي تصدير الثورة الايرانية في بداياتها.

بالطبع كانت هناك النواة لهذا المحور الامبراطوري مع النظام السوري (الذي كان جسر النفوذ الايراني في لبنان)، ولذا أتى اغتيال رفيق الحريري من “المحور الايراني – السوري” ليس لأسباب لبنانية بحتة فحسب، بل لأنه سياسي سني عربي صاحب العلاقات الاقليمية والدولية الواسعة.

وهكذا بدل تغيير “الشرق الأوسط” انطلاقاً من العراق كما تصور المحافظون الجدد، ضمنت إيران حديقتها الخلفية في العراق المتروك، حينها، لحربه الأهلية وللارهاب ولتركيز نظام إقصائي ضد العرب السنة، وأعقبت طهران ذلك بإعطاء إشارة الانطلاق لتغيير وجه الشرق اعتباراً من لبنان، لأن تغييب الحريري استهدف أحد رموز الاسلام السني المعتدل والوسطي (المستهدف اليوم من غياب مشروع له ومن التطرف المتأصل أو المحرك من ريموت كونترول إقليمي ودولي)، والأرجح أن الخوف الأساسي من الحريري كان نظراً الى امتداد تأثيره إلى الداخلين السوري وحتى العراقي بالاجمال (على شاكلة العلاقة القوية التي كانت تربطه بالزعيم الشيعي المعتدل إياد علاوي).

قبل تغييب رفيق الحريري، غاب ياسر عرفات مع ما يمثله من رمزية كبيرة في 2004، وبعد ذلك جرى إعدام صدام حسين مع ما يمثله مع العراق بالنسبة الى اعادة تركيب الاقليم. واكتمل مسار تغيير وجه الشرق مع تحولات ما بعد ٢٠١١ التي ضربت الأكثرية في سوريا وأسقطت دمشق وما تمثل، بيد المحور الايراني، وذلك بعد اسقاط بغداد وطرابلس وبيروت وقبل اسقاط حلب والموصل وكأن المطلوب محو التأثير السياسي لحواضر المشرق الكبرى صانعة الحضارة وطابعها العربي.

هكذا يتبين أن اغتيال رفيق الحريري كان ضرورياً من أجل تسهيل اعادة تركيب الاقليم نحو وجهة جديدة. لكن ابن صيدا وزعيم بيروت ورجل الاعمال العصامي والحائز على ثقة المملكة العربية السعودية والمتمتع بشبكة علاقات عربية وعالمية قل نظيرها من حسني مبارك إلى جاك شيراك وفلاديمير بوتين وصناع القرار في واشنطن، كان قبل كل شيء لبنانياً في الصميم وكان طموحه مشروعاً في اعادة بيروت عروساً للمتوسط والشرق.

أثير الكثير حول مشروع اعادة الاعمار وعن صلاته مع دمشق و”حزب الله” من أجل تيسير عمله التنموي في لبنان، يمكن ايراد الملاحظات حول ليبرالية غير منتجة، لكن رهانه كان على نقل لبنان من مرحلة الانقسام العميق الطائفي والميليشيوي واعتقاده أن اكتساب لبنان المناعة الاقتصادية سيفتح الباب أمام التحرر من الوصاية السورية لاحقاً، وكان للذي نشأ في عاصمة الجنوب قسط في معركة تحريره عبر تفاهم نيسان/ أبريل 1996 الذي منح “المقاومة شرعية عملها”. وهكذا مقابل تسهيل دوره السياسي والاقتصادي وافق على توفير الغطاء لـ”حزب الله”. وراهن رفيق الحريري كذلك على مناخ تسوية ترتسم ولم تتبلور بعد اتفاق أوسلو في 1993، ويكتب له أنه عمل كل شيء من أجل السلم الأهلي والحصانة الوطنية.

وكانت لرفيق الحريري صلة وثيقة بالتربية والانسان، وأراد أن يحمل الشباب القلم والقرطاس بدل السلاح ومنطق العنف، وبفضله تعلم حوالي 35 ألف طالب لبناني والكثير منهم في كبار جامعات العالم. هكذا كان رفيق الحريري مدرسة العلم ومدرسة الواقعية ومدرسة الوطنية ومدرسة السلم الأهلي. لم يدع رفيق الحريري فرصة ولم ينتهزها لإنقاذ لبنان الذي اعتبر أنه لا يوجد من هو أكبر من بلده، وهو الذي اعتبر أن “لبنان لا يمكن أن يحكم ضد سوريا، لكن لا يمكن أن يحكم من سوريا”.

على الرغم من جهوده ودوره الوسطي وانفتاحه قاموا بعملية الاغتيال الآثمة، وكان كل ذنبه أنه أحب لبنان وأراد إعلاء شأنه وتعزيز استقلاله، وأرادوا من تغييبه كما غيّبوا من قبله كباراً من لبنان أن تنتهي الدولة وأن يضرب البعد العربي وتغيير هوية بلاد الأرز.

لم تكن مهمة سعد الحريري سهلة في تأمين استمرار نهج رفيق الحريري ومدرسته تحت سقف نفوذ “حزب الله” وتفاهمه مع التيار العوني وانفراط عقد حركة ١٤ آذار. ومما لا شك فيه أن ثمن وصول الجنرال ميشال عون إلى قصر بعبدا في 2016 كان باهظاً ومكلفاً بالنسبة اليه. حاول سعد الحريري الكثير أيضاً وفق قناعاته وإمكاناته.

ويسجل لسعد رفيق الحريري أنه تحمل الكثير على المستوى الشخصي وربما أخطأ سياسياً ومن لا يعمل لا يخطئ. والأهم أن الفراغ الذي تركه غيابه كان كبيراً، ولبنان اليوم بحاجة الى سعد الحريري حاملاً لمشروع رفيق الحريري وشهداء ثورة الأرز، ومشروع الاعتدال العربي والارتباط بالعمق العربي وخط لبنان أولاً.

شارك المقال