رفيق الحريري مرَّ من هنا

عاصم عبد الرحمن

يقول الشاعر نزار قباني: “عشرون عاماً يا كتاب الهوى ولم أزل في الصفحة الأولى”، حالٌ إنما تختصر حكاية الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي دخل اغتياله مدار العقدين وكأنه اغتيل أمس، آثارٌ سياسية واقتصادية متفاعلة، تحولات حياتية ومجتمعية متفاقمة وانعكاساتٌ طاولت مختلف القطاعات اللبنانية ولا تزال. ففي كل زاوية لبنانية حكاية حريرية، ولا شك في أن هناك رجلاً ما يجالس رفيقه على مقعد الحياة التي غمرتها أشواك الزمن الصعب يعيدان شريط ذكرياتهما فيعثران على حكاية تخبرهما “أنَّ رفيق الحريري مرَّ من هنا”.

في صيف العام 2000 أُجريت انتخابات نيابية في مختلف المحافظات اللبنانية على مرحلتين بين 27 آب و3 أيلول. وفي سياق الحملات الانتخابية التي أطلقها المرشحون والأحزاب، قرر الرئيس الشهيد رفيق الحريري القيام بجولة سياسية ترويجية في الشمال عموماً والضنية خصوصاً لدعم ترشيح النائب والوزير السابق أحمد فتفت، وعلى الرغم من أن موعد اللقاء قد حُدد في الساعات الأولى من ذلك النهار إلا أن الجماهير الشعبية كان لها كلام آخر، فاحتشد محبو رفيق الحريري على الطرق التي ستحتضن موكبه وأقاموا له حواجز محبة ولم يرتضوا بأقل من إنزاله على الأرض ورفعه على الأكتاف معبّرين عما في قلوبهم من عشق لرجل شكَّل ولا يزال رمزاً للحضارة والوسطية تعكسان نهج الطائفة السنية التي ينتمي وينتمون إليها، إذ كان هناك مَنْ أراد لهذه الطائفة أن تغرق في متاهات التشدد والإرهاب وفي أحد أهم دور الطائفة في ما عرف بـ “أحداث الضنية” التي دفع الصحافي الشهيد سمير قصير حياته ثمن كشفه النقاب عن رأس مدبرها الذي ما يزال قابعاً على عرش حصانة نيابية مُنحت له زوراً.

مرياطة بلدة شمالية تنتمي إلى الطائفة السنية تلون قضاء زغرتا المارونية، وقد درجت نكتة يرددها المرياطيون ويضحك لها المسيحيون إذ يعرّف المرياطي عن نفسه بالقول “مسلم سني من زغرتا”، نكتةٌ طوائفية تعكس صورة العيش المشترك الذي تدين به البلدة منذ تأسيسها، فلطالما شكلت محطة لقاء واستراحة لزعيمي زغرتا الرئيسين سليمان فرنجية ورينيه معوض ومنها اعتقل أحد رجالات الاستقلال النائب عبد الحميد كرامي ليل 11 تشرين الثاني 1943 ومن هنا تبدأ الحكاية، فبلدة مرياطة التي ولد فيها الرئيس الراحل عمر كرامي احتضنت “الخط الأفندي” واعتنقته على الدوام، مارسته ودافعت عنه.

وفي طريقه إلى الضنية عام 2000 أي في عز ولاء المرياطيين لآل كرامي وفي زمن الوصاية السورية، احتشد المرياطيون الذين أحبوا رفيق الحريري واختاروه زعيماً لخياراتهم السياسية على الرغم من تواضعهم عتاداً وعديداً بالنظر إلى حلفاء عمر كرامي وسليمان وفرنجية ونايلة معوض. قال حريريو مرياطة يومها كلمتهم التي دوَّى صداها في مختلف الأروقة السياسية في لبنان وسوريا التي تتابع عبر حلفائها وضباطها تفاصيل الشؤون اللبنانية وأحداثها والأهم ثغراتها التي يتم من خلالها التسلل إلى صلب القضايا وتسييرها وفق ما تشتهيه سفنها.

أنزل المرياطيون رفيق الحريري على الأرض حملوه على الأكتاف مرددين “بالروح بالدم نفديك يا رفيق”، أما المفاجأة الشعبية التي ملأت الأرجاء فكانت تهافت المرياطيين بأعداد كبيرة فاقت توقعات الحلفاء وشكلت صدمة للخصوم سواء في طرابلس أم في زغرتا. قالت مرياطة يومها انها تحمل رفيق الحريري في قلبها غير آبهة بوكلاء الوصاية وتهديداتهم. وعلى أثر معلومات تلقوها من اللواء أشرف ريفي الذي كان مرافقاً للحريري، تصدى أهالي مرياطة لمحاولاتٍ بلطجية أعدَّ لها مؤيدو الرئيس عمر كرامي الذين رفعوا صور الأفندي في كل مكان وأطلقوا مواكب سيَّارة لإثارة البلبلة والضجيج السياسي.

تحدث بعض المرياطيين من الذين تهافتوا على استقبال الرئيس الشهيد رفيق الحريري لـ “لبنان الكبير” عن الهالة غير المشهودة التي يتمتع بها والتي تصيب كل مَنْ يقترب منه، ويضيفون: “إن الحريري كان ينظر إلى الجميع بدهشة وإعجاب ملوحاً بيديه لكل مَنْ وقع نظره عليه”.

وفي السياق نفسه يقول مختار مرياطة فاروق عبد الرحمن لـ “لبنان الكبير”: “إن المشهدية التي تشكلت لحظة وصول الرئيس الشهيد رفيق الحريري تشبه الحالة التي أرساها الزعيم العربي جمال عبد الناصر”، ويضيف قائلاً: “لا يمكن نسيان وجه رفيق الحريري، كان بدراً فاق نوره ضوء شمس ذلك النهار”.

تناولت قناة “المنار” التابعة لـ “حزب الله” ذلك المرور الحريريّ الكريم في مرياطة بصورة سلبية واتهمت المرياطيين برشق موكب الحريري بالبيض والبندورة تعبيراً عن رفضهم للرفيق وهو ما نفاه رفيق الحريري شخصياً، فقد أخبر زواره من مرياطة في قصر قريطم بأنه لن ينسى تلك المحطة، معبّراً عن تأثره بمجموعة ترفع صورة للرئيس عمر كرامي لوَّح لها بيديه فكادت تسقط اندفاعاً ولهفة من الشرفة حيث تقف جراء الدهشة التي أصابتها سهامه.

في كل مكان إذاً، مرَّ رفيق الحريري تاركاً وراءه حكاية تتناولها الأجيال، فعبوره لم يكن يوماً مجرد طيف مرَّ ومضى، إنما حفر في ذاكرة الزمان مكاناً يحمل اسم شهيد سقط في عيد حبٍ من نوع آخر إنه “حب الوطن” ليرسي معالم التقدم والتنوع والرقي. رفيق الحريري مرَّ من هنا، من هناك، من هنالك وسيمرُّ لحظة كل استحقاق يفتقد حكمته الوطنية وحنكته السياسية ليقول له “ليتك تمرُّ من هنا”.

شارك المقال