رفيق الحريري… صفر عنف صفر أعداء فاغتالوه!

جورج حايك
جورج حايك

قصة الرئيس الشهيد رفيق الحريري مع النظام السوري و”حزب الله” تستحق أن تكون رواية تراجيدية نظراً إلى تضمنها معاني عميقة في ما يتعلق بالفرق بين الخير والشر في هذا العالم.

حتماً لسنا في وارد أن نكتب قصائد ووجدانيات إنما وقائع حصلت إنطلاقاً من مسيرة الحريري السياسية التي بدأت فعلياً من الباب الواسع منذ العام 1992، وتحديداً مع انتهاء الحرب اللبنانية وتوافق اللبنانيين على اتفاق الطائف برضى اقليمي ودولي، فالرجل الثري المتفوّق بنجاحه الآتي من عالم الأعمال والاقتصاد والاعمار والعلاقات الدولية المتينة، دخل إلى الحياة السياسية في لبنان وترك آثاراً تاريخية، بل طبع المرحلة بين 1992 وحتى استشهاده عام 2005 بإسمه إذ باتت تعرف بحقبة الحريرية السياسية.

لكن رفيق الحريري كانت له مميزات قلّ نظيرها وخصوصاً بعد حرب دامية استمرت 15 عاماً، فقدّم نموذجاً رائعاً يرتكز على مبادئ الحوار والسلام والوحدة الوطنية والاعمار والازدهار، بعيداً من الصراعات السياسية الضيقة والدولة الأمنية البوليسية، فكان “الأمل” الوحيد في ظلّ الاحتلال السوري للبنان، وخصوصاً مع إبعاد شخصيات معارضة، وتحديداً الزعماء المسيحيون مثل رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع والعماد ميشال عون والرئيس أمين الجميل وغيرهم.

من المؤكد أن الوضع اللبناني عندما تسلّم الحريري رئاسة الحكومة لم يكن مقبولاً، إذ كان الجيش السوري لا يزال محتلاً للبنان مع كامل مخابراته، من دون الاستعداد لتطبيق اتفاق الطائف والبدء بإنسحاب جيشه نحو البقاع، واضطهاد المعارضين المسيحيين واعتقالهم والتنكيل بهم، وإبقاء السلاح مع “حزب الله” الذي كان يعمل للأجندة الايرانية متستراً بغطاء المقاومة وتحرير الجنوب والبقاع من الاحتلال الاسرائيلي، إضافة إلى وجود مناطق لبنانية منكوبة بحاجة إلى إعادة إعمار وخصوصاً الوسط التجاري في بيروت.

تلك كانت المشهدية العسكرية والأمنية والسياسية إثر وصول الحريري إلى الحكم، وكان عليه إيجاد معادلة يؤمّن فيها الاستقرار، فتولى ملف الاعمار والاقتصاد والمال من دون إقحام نفسه في القضايا السياسية الخلافية والقضايا الأمنية والعسكرية التي بقيت تحت إدارة سوريا آنذاك. وقد نجح في تطبيق رؤيته وقضت بتحويل لبنان إلى مركز مالي واستشفائي وتعليمي وسياحي لدول الاقليم والعالم.

وكان الحريري يعرف بعمق أن اتفاق الطائف هو وليدة تفاهم أميركي – سعودي – سوري، ولا مجال لتغيير الأوضاع، فانصرف بواقعية وبكامل قواه للإفادة من المعطيات المتوافرة على طريقة “بالموجود جود”، مقدماً أفضل ما لديه لتحسين الأوضاع المالية والاقتصادية وكل ما يتعلق بشؤون الاعمار والعلاقات الخارجية التي تخدم لبنان بالحد الأدنى، مع الحرص على عدم المسّ بالتوازنات الموجودة سواء سوريا أو “حزب الله”.

طبعاً لم يكن الحريري متواطئاً مع السوريين ولا مع “الحزب”، إنما التزم بمعادلته، فهو ليس رجل حرب وعنف ومواجهات حادة، بل يؤمن بالحوار، وهذا كان مفتاحه للعلاقة مع السوريين و”الحزب” طوال 13 عاماً وحتى لحظة إغتياله.

لكن ما يجب معرفته أن الحريري قدّم الكثير للسوريين و”حزب الله” من دون أن يساوم على مبادئه انما للمحافظة على معادلته واستقرار لبنان لغاية هبوب رياح التغيير الدولية، وهذا ما حصل عام 2000. إلا أن الحريري تمكّن من نقل لبنان من حالة الحرب إلى حالة الاستقرار والراحة الاقتصادية والمالية والسياحية نسبياً عبر مهادنة السوريين و”الحزب”، متحمّلاً بصبر مدهش، طبقة فاسدة من الضباط السوريين وشركائهم السياسيين اللبنانيين، ولو كان يطمح إلى بناء دولة أكثر تماسكاً، لتمتد أيادي الغدر وتغتاله قبل أن يحقق كل أحلامه اللبنانية.

لكن لا بد من العودة إلى بداية العلاقة مع القيادة السورية، ليس صعباً أن يلاحظ المرء إيمان الحريري بالحوار وحلّ المشكلات والأزمات ودياً أو بأسلوب منطقيّ، وحتماً لم تكن تنقصه الحكمة. وعشيّة تسلّمه الحكومة اللبنانية طلب الرئيس السوري حافظ الأسد اللقاء بالحريري بواسطة نائبه عبد الحليم خدام، وهذا ما حصل عندما استقبله لمدة تزيد عن ثلاث ساعات، وهو يناقشه في قضايا ليست لها علاقة بلبنان. وبعد أكثر من ساعتين، سأله عن لبنان، وعن الرئيس إلياس الهراوي والسياسيين اللبنانيين. وكان يجيب بكل بساطة من دون أن يتحامل على أحد أو يكثر المديح عن أحد. فجأة، سأله الأسد: “إذا كنت رئيساً للحكومة اللبنانية واختلفنا مع المملكة العربية السعودية، فكيف ستتصرف؟”. أجابه الحريري: “سيادة الرئيس، أنا لبناني أحب وطني، وأنا سعودي، ولحم أكتافي من السعودية. بالتالي، لا أستطيع أن أتخلى عن السعودية لأني لست من ناكري الجميل، وأنا قوميّ عربي أعتبر سوريا حاضنة العرب، ولا أستطيع إلا أن أكون مع سوريا. بالتالي، إذا حصل خلاف سأعمل على إزالته وعلى عودة المياه إلى مجاريها، وإذا فشلت فسأعتزل وأعيش في منزلي!”.

أجابه الأسد: “لو قلت غير هذا الكلام لما صدقتك، وكنت ستفقد ثقتي. سأطلب من أبي جمال (خدام) إبلاغ الرئيس اللبناني بأننا نؤيد ترشيح رفيق الحريري”.

هكذا أصبح الحريري رئيساً لوزراء لبنان، والتزم بكل كلمة قالها أمام الأسد، وقدّم خدمات كبيرة لسوريا عبر علاقاته الخارجية. كما سبق ذلك، وقبل أن تطرح قضية الحكومة في لبنان، عرض الحريري، كهدية لسوريا، بناء “قصر المؤتمرات” والفندق المرتبط به، وأكمل أيضاً بناء قصر الرئاسة الجديد.

تعرّض الرئيس الحريري لحملات من بعض أجهزة الأمن السوري، وتعززت هذه الحملات بعد وفاة الأسد في العام 2000، والذي كان يعرف ما يمكن للحريري أن يقدمه من خدمات للبنان وسوريا.

وبعد تسلم إبنه بشار الأسد السلطة، بدأ حملة على الحريري، وكانت تحرّضه على ذلك مجموعة من اللبنانيين الذين كانوا سابقاً مرتبطين بشقيقه باسل، ولهم مصالح في الدولة اللبنانية. ونشأت حالة من التوتر لدى بشار ضد الحريري، ما أدى إلى دفع أصدقاء بشار في لبنان الى شنّ المزيد من الحملات عليه. وأدت هذه الحملات إلى زيادة عزلة بشار العربية والدولية، فوجد نفسه أمام خيار واحد وهو الارتماء في أحضان إيران. وتصاعدت هذه الحملات وصولاً إلى جواب معبّر لوزير الخارجية السابق فاروق الشرع عندما سئل عن العلاقات مع الحريري، فأجاب: “متآمر على سوريا، ومرتبط بالولايات المتحدة الأميركية وفرنسا ضد سوريا”. وبقيت هذه الحملات ومحاولات التضييق على الحريري لمصلحة أصدقاء بشار في لبنان حتى ساهم نظامه، على نحو أساسي، في اغتياله في 14 شباط 2005.

ما لم يفهمه نظام الأسد أن رحيل رفيق الحريري ليس خسارة للبنان فحسب، بل خسارة لسوريا أيضاً، لذلك كان الأجدر بسوريا المحافظة عليه بكل ما تمتلك من وسائل وأدوات بعيداً عن أيّ نوع من السياسات الغبية التي لا يمكن إلا أن ترتد عليها. بصراحة، كان الأجدر بسوريا السعي إلى المحافظة على رفيق الحريري كي تتمكن من تجاوز الأزمة التي تمر بها، وهي أزمة نظام يعتقد أنه لاعب إقليمي في حين أنه لا يمتلك أيّ ورقة تمكّنه من أن يكون لاعباً على هذا المستوى.

على العكس من ذلك، حرم إغتيال رفيق الحريري سوريا من إحدى أهم أوراقها. والمعنى في ذلك أنه حرمها من رجل عربي حقيقي يؤمن بكل ما هو في مصلحة العرب عموماً وسوريا خصوصاً. أكثر من ذلك كان رفيق الحريري قادراً على أن يفتح أبواب العالم في وجه سوريا في حين أن ليس في دمشق هذه الأيام من هو قادر على التوجه إلى العالم أو مخاطبته.

فقد هذا النظام من حيث يدري أو لا يدري والأرجح أنه لا يدري، رجلاً عروبياً خدمه في المحافل الدولية ودافع عنه من منطلق أنه مؤمن بكل ما هو عربي ومعاد لكل ما هو إسرائيلي. فقد كوفئ الرجل بطريقة شنيعة على الخدمات التي قدمها للبنان وسوريا والقضية العربية، تطبيقاً للمثل الفرنسي القائل: هناك خدمات كبيرة إلى درجة لا يمكن الرد عليها إلا بنكران الجميل.

لم يجلب إغتيال الحريري لسوريا سوى مزيد من العداوات والمتاعب. والأكيد أن الطريق إلى استعادة الجولان لا يمر ببيروت بل كان يمر بالخروج من بيروت، وهذا ما حصل بعدما دفع الحريري وكثر من اللبنانيين ضريبة الدم، فخرج الجيش السوري مطأطأ الرأس!

أما علاقة الحريري مع “حزب الله” فكان يفرضها الواقع، و كلّما عكّرت مغامرات “الحزب” العسكرية خطة الحريري، وظّف حجمه الدولي والمحلي لوقف المغامرة، بالتي هي أحسن. وقد رفض “الحزب” مبادرات للحريري بحكم موقعه الدولي أي تسوية مع إسرائيل كانت ستؤدي الى انسحابها قبل أعوام من العام 2000، إلى أن تمّ ذلك في العام المذكور ولم يعد لـ”الحزب” وظيفة، فراح الحريري يعقد لقاءات حوار دورية مع الأمين العام لـ”الحزب” حسن نصر الله لإقناعه بإنهاء العمل المسلح والانضواء تحت سلطة الدولة.

كل محاولات الحريري لإيجاد تسوية مع “حزب الله” لم تنجِّه من القتل، فعام 1996 لعب دوراً محورياً في ما عرف بـ”تفاهم نيسان” الذي أعقب عملية “عناقيد الغضب” التي شنتها إسرائيل ضد “الحزب”، بل أوصله إلى حال من الاعتراف الاسرائيلي والدولي بأن المقاومة عمل مشروع. وعلى الرغم من كل محاولات الحريري مد جسور تفاهم بين “الحزب” وعواصم القرار، قوبلت بالجفاء والتشكيك من هذا الأخير، ولم يقرّ بدوره في “تفاهم نيسان” 1996، ووضعه في خانة الديبلوماسية الايرانية والسورية. وليس سراً أن “الحزب” تعامل مع كل ايجابيات الحريري حياله، بطريقة سلبيّة، فكان نوابه معارضين له في المجلس النيابي ولم يسمّونه ولو مرة واحدة رئيساً لمجلس الوزراء ولم يمنحوه الثقة لحكوماته ولم يؤيدوا الموازنات التي تقدّمت بها، فيما تعاملوا على نحو مختلف مع حكومة الرئيس سليم الحص.

أرسى رفيق الحريري مع “الحزب” نوعاً من التفاهم السياسي، لكن الأخير بقي متربصاً به لأنه تابع لايران التي كانت تعتبر الحريري موالياً للسعودية ويجمع المسلمين السُنّة في لبنان حوله، وهو يمنع “الحزب” من الاستيلاء على لبنان. فكان قرار الاغتيال لإزاحة هذا “الجبل” من المشهد السياسي، ومن يراقب الأحداث منذ العام 2005 حتى اليوم، لا بد من أن يكتشف سرّ اغتياله، فلبنان وقع تحت هيمنة “الحزب” الذي حوّله ساحة جهاد لمصلحة إيران ومشروعها التوسعي، وحتماً كان الحريري عائقاً أمامها.

رفيق الحريري لم يكن فرصة أضاعها لبنان و”حزب الله”، كان فرصة أضاعتها سوريا أيضاً. لا شيء يحدث بالصدفة. ليس صدفة انهيار سوريا بعد سنوات قليلة على غياب الحريري. لم يكن الرجل حامياً للبنان فحسب، كان حامياً لسوريا أيضاً.

كل من تورّط في اغتيال الحريري أكان نظام الأسد أو ايران وذراعها العسكرية “حزب الله” سيدفع الثمن عاجلاً أم آجلاً على غدره بهذه الدماء الزكيّة، فلا نظام الأسد سيستمر ولا النظام الايراني، لأنهما حاقدان، وهناك شيء لا يستطيع الحقود رؤيته، وهو أن الحقد يقتله وينهيه، وسيعود لبنان إلى خريطة الشرق الأوسط، وعندها يرتاح رفيق الحريري وينام قرير العين!

شارك المقال