لتكن “عودة الحريري” عنوان “ما بعد حزب إيران”

عبدالوهاب بدرخان

عامان على تعليق العمل السياسي والغياب عن لبنان أكدا أن الأسباب التي حدّدها الرئيس سعد الحريري لخطوته تلك كانت ولا تزال تنخر في أسس الدولة والمؤسسات، وأكدا أيضاً أن الجهة الحاكمة الفعلية، وهي “حزب إيران/حزب الله”، استطاعت أن تفرض سطوتها على البلد لكنها لم تضعه على طريق الاستقرار، بل استحوذت على السلطة لتحقيق “المشروع الإيراني”. وسواء اعترفت القوى السياسية علناً أو ضمناً، فإنها موقنة اليوم بأن هذا “المشروع” لن يأتي بأي خلاص للبنان من أزماته المتراكمة والمتداخلة، مهما أوغل “الحزب الحاكم” في الترهيب والعنت، ومهما حاول استثمار مساندته لغزّة في الداخل اللبناني.

برهن الزحف الشعبي الى حيث ضريح الرئيس الشهيد رفيق الحريري في وسط بيروت، وكذلك اقبال الفعاليات السياسية والاقتصادية والديبلوماسية على “بيت الوسط”، أن بوصلة الشعب بمختلف أطيافه لا تزال متجهة الى “مشروع الحريرية” الذي ناقض عملياً سعي النظامين السوري والإيراني الى استتباع لبنان وابتلاعه من أجل أحلام وأوهام لا يمكن أن تثمر، أو أن تدوم. أصبح معروفاً، ومحفوراً في الذاكرة والأذهان، أن هذين النظامين ووكيلهما “الحزب” المحلي أقدموا على تغييب الحريري الأب لأن مشروعه التنموي ودعمه للدولة وتمكينه أجيالاً عدة من التعلّم في الداخل والخارج شكّلت عقبة أمام طموحاتهم العبثية والتخريبية. كما أنهم وظّفوا كل أسلحتهم، بما فيها خصوصاً السلاح غير الشرعي لـ”الحزب”، في الاغتيال السياسي للحريري الابن، لأنه سار على نهج والده الذي غدا نموذجاً لما تحتاج اليه البلاد.

كان الرئيس سعد الحريري لخّص الأسباب الخارجية والداخلية لتعليق عمله السياسي بأن لا مجال لأي “فرصة إيجابية” للبنان في ظل “النفوذ ‏الايراني والتخبط الدولي، والانقسام الوطني واستعار الطائفية واهتراء الدولة”… عشر كلمات وصّفت معضلات خمس دفعت بلبنان الى حفرة أزمة اقتصادية عاتية وغير مسبوقة وما لبثت أن كشفت كل العيوب والأمراض والاستعصاءات والمؤامرات المكشوفة لتعطيل أي “فرصة إيجابية”. لم تكن سوريا الأسد وإيران الملالي و”الحزب الحاكم” ليسمحوا بأن يُقبل المجتمع الدولي والدول المانحة على ضمان الاقتصاد اللبناني وانهاضه فيما هم ماثلون على لوائح العقوبات واللوائح السوداء المعلنة وغير المعلنة في كل مكان.

كانت الفرصة الأخيرة التي أثبتت فيها “الحريرية” فاعليتها الدولية في “مؤتمر سيدر” عام 2018، وكانت لحظة لتجاوز “التخبّط الدولي” واختبار “التسوية الرئاسية” الداخلية ورهان سعد الحريري على تغليب الاعتدال وإحياء الإرث الإصلاحي والتنموي لرفيق الحريري. لم تكن هناك حاجة الى شرح أن “مشروع سيدر” معنيٌّ بكل مناطق لبنان، لأنه استُبق بتحضيرات شارك فيها الجميع، وبالأخص أولئك الذين تضافروا بعدئذ على تخريبه بذرائع واهية وأساليب ودوافع مشتبه بها، وهم أنفسهم الذين تسبب فسادهم وجشعهم في تفجير الانتفاضة الشعبية، وكانوا هم أيضاً الذين نشطوا في قمع تلك الانتفاضة واجهاضها واختراقها لإفشالها. وإذ رأى فيها الحريري فرصة يمكن أن تكون “إيجابية” وقد تساعد في إبقاء مشروعه حيّاً وقائماً حتى لو تأخّر الإقلاع به، ما لبث أن استقال لدعم الاستجابة لمطالب الشعب، لكن “أطراف المنظومة” بقيادة “الحزب الحاكم” اياه كشفوا نياتهم الحقيقية وعادوا الى مآربهم الأساسية التي لا يستطيعون تحقيقها بوجود الحريري، لأنه لا يشاركهم تواطؤهم وأهدافهم التي غلّفوها بـ “تفاهم مار مخايل”، الذي لم يكن في مصلحة البلد، بل استغلّ طرفاه لتحقيق مصالحهما ويتلاومان اليوم حول الفشل في تطبيق بنوده.

مضى على الحكم الفعلي لـ “حزب إيران” ثمانية أعوام، ستة منها وراء الحليف “العوني” الى أن أوصلا البلد الى “جهنم”، وعام وخمسة شهور أنجز خلالها “الحزب” تهميش الدولة وانفرد بالقرار الى أن دفعته “المصالح الإيرانية” وموجبات “محور الممانعة” و”وحدة الساحات” على افتعال مواجهة دامية ومدمّرة مع العدو الاسرائيلي من دون أن يستشير أحداً أو يعير اهتماماً للبنانيين جميعاً، بمن فيهم بيئته المذهبية التي تتحمّل الآن خسائر بشرية ومادية متزايدة، بالإضافة الى إرباكات النزوح ومتاعبه، ولا ترى أن تضحياتها تُحدث فارقاً في الكارثة الإنسانية التي حلّت بغزّة. وإذ يكاد التصعيد أن ينزلق في أي لحظة الى حرب واسعة يمكن أن تكلّف لبنان دماراً فوق دمار، فإن “الحزب” يعتقد أنه قادر على مواصلة اللعب ضمن “قواعد الاشتباك” في أحسن الأحوال، وعلى تكبيد العدو خسائر كبيرة في أسوئها. ولا شك في أن هذا “الحزب” يطمح ويخطط للخروج من هذه المواجهة للعودة الى فرض شروطه على اللبنانيين في كل ما يخصّ مستقبلهم.

في هذه الأجواء الثقيلة والملبّدة بالشكوك والمخاوف، برزت الدعوة الى سعد الحريري كي يعود ويمارس دوره بالمفاهيم التي لم يحد عنها. فمجرد وجود شعور شعبي عابر للطوائف بالحاجة الى عودة الحريري، ومعبّرٍ عنه بهذا الوضوح، يعني أن تجربة الحكم الزائف لم ولن تنجح في تحقيق أهدافها، وأن أحداً في مكوّنات المجتمع لا يراهن على “حزب” امتهن قتل الآمال ومارس البلطجة على الناس، ولا أحد يتوهّم بأنه يمكن أن يتغيّر (كان الاميركيون روّجوا أن “طالبان” تغيّرت عندما تهيّأوا للانسحاب من أفغانستان!). ولأن اللبنانيين افتقدوا مَن لديه المصداقية في الداخل والخارج، ويحتاجون الى مَن يعيد اليهم الأمل ومَن إذا عاد يمكن أن يعود البلد، لذلك طالبوا الحريري بالعودة.

خَبِر اللبنانيون “حزب إيران” في انقلابه على الدولة وإفساده للمؤسسات، وفي حروبه الداخلية والخارجية التي أوقعت لبنان في عزلة عربية ودولية، وهم يلمسون الآن مجازفته بالوطن ومصيره، حتى يئسوا مما يقول ويخطط ويفعل. وما دام “الحزب” استدرج لبنان الى الكارثة التي يعيشونها منذ خمسة أعوام، فلا أقلّ من أن ينتظر اللبنانيون بدورهم “اليوم التالي” وأن يبحثوا عن “ما بعد”. فإيران و”حزبها” قادران فقط على تعطيل الحلول والتسويات لإدامة أزمة داخلية باتت ركيزة هيمنتهما، لكنهما مقبلان على مرحلة تتطلّب منهما التخلّي عن المكابرة للاعتراف بـ “الحقائق اللبنانية”. وأياً تكن التسوية التي ستتبلور، عبر “اللجنة الخماسية”، أو عبر تفاهمات سعودية – إيرانية، أو حتى أميركية – إيرانية، فإنها لن تستقيم من دون إعادة التوازن الى الداخل. وستكون عودة الحريري عنواناً لهذا التوازن المستعاد.

شارك المقال